عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد الصليب
ولمناسبة وضع الحجر الأساس لمشروع غقامة الصليب الكبير وبناء المزار
اجدبرا، الخميس 13 أيلول 2012
« إن حبة الحنطة إن لم تقع وتمت في الأرض تبقى مفردة، وإن ماتت تأتي بثمار كثيرة » (يوحنا 12/24)
أحبائي إخوتي الكهنة،
أيها الأعزاء أبناء وبنات اجدبرا وعبرين وبجدرفل وكل الرعايا المجاورة
أبناء وبنات أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين.
بفرح واعتزاز أنا معكم ليلة عيد الصليب، بكل ما يحمل من معانٍ ورموزٍ بالنسبة إليّ وإليكم، لنحتفل بالقداس الإلهي، بذبيحة الخلاص التي قدّمها ابن الله يسوع المسيح فداءً عن البشر أجمعين.
سأنطلق من إنجيل العيد حبة الحنطة التي اتخذها السيد المسيح مثالاً لكي يشرح لهم معنى الموت والقيامة، معنى موته هو ابن الله وقيامته. حبة الحنطة كانت في متناول فهم الجميع، ليس فقط رسله وتلاميذه، وكانوا أبناء الأرض، ونحن أيضاً أبناء الأرض ونفهم ما تعني حبة الحنطة التي تُبذر في الأرض، فتموت فيها، لكي تقوم وتعطي ثماراً كثيرة.
اتخذ المسيح مثل حبة الحنطة لكي يتكلم عن نفسه، وينهي كلامه أمام الرسل والتلاميذ قائلاً: «ما كان هذا الصوت من أجلي، بل من أجلكم». أمثولة حبة الحنطة تطبّق عليّ أولاً، أنا ابن الله يقول يسوع، أردت أن أموت على الصليب، ثم بقيامتي أعطي الحياة لجميع الناس.
إنها أمثولة لنا اليوم جميعاً. إذا كان يسوع المسيح ابن الله ارتضى أن يتجسّد إنساناً مثلنا وأن يعيش ويحمل إنسانيتنا الضعيفة ويحمل خطايانا حتى الموت على الصليب لكي يقلب كل المقاييس ويغيّر منطق البشر. ويقول لنا: لا تخافوا من الموت؛ فالموت بالمسيح ومع المسيح يوصلكم بالقيامة إلى الحياة الأبدية في الملكوت. تغيّر كل شيء بموت وقيامة المسيح. فالموت لم يعد له سلطان على الإنسان بعد موت المسيح على الصليب. والصليب الذي كان رمز العار وموت المجرمين، أصبح رمزاً للقيامة والمجد والحياة الجديدة. تغيّر كل شيء.
هذه هي الأمثولة التي يتركها لنا السيد المسيح. «من يخدمني فليتبعني»، ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلن يستحقني».
نحن نستحق المسيح. لذا نحن نحمل الصليب ونتبعه لكي يصبح الموتُ بالنسبة إلينا عبوراً إلى الحياة الأبدية. فحبة الحنطة تبقى بالنسبة إلى كل مسيحي العلامة المميزة والفارقة. كذلك الصليب الذي كان عاراً بالنسبة إلى غير المسيحيين أصبح شهادة لمجد القيامة.
هل نرضى نحن اليوم أن نحمل هذا الرمز ونشهد له في حياتنا ؟
عيد الصليب يحمل معنىً خاصاً بالنسبة إليّ وإلى عائلتي، إذ كان ذكرى استشهاد الوالدين بمثابة حبة الحنطة؛ ماتا مع المسيح وقاما معه وأنا كنت من ثمار استشهادهما لحياة جديدة. هكذا تربّينا في عائلتنا ونحن صغار على المحبة والمغفرة، وقد غفرنا للقاتل. وهكذا أنا اتخذت هذا اليوم موعداً لرسامتي الكهنوتية ورمزاً للمغفرة والمصالحة والعطاء في الخدمة الكهنوتية.
وأنا اليوم أحتفل معكم بهذا العيد للمرة الأولى كمطرانكم ولخدمتكم في المحبة، وأجدّد وعدي للرب باتخاذ المحبة التي منها كل القيم، ومنها المغفرة والمصالحة. وما أصعب المغفرة. إنها لاتحدي الكبير بالنسبة إلينا نحن المسيحيين. فكما غفر المسيح على الصليب لصالبيه، كذلك نحن علينا أن نغفر ونعيش المصالحة فعلاً لا قولاً.
كنيستنا حملت طيلة مئات السنوات هذه القيمة، قيمة المحبة، وما يتبعها من قيم، لكي تشهد من خلالها بالصفح والمغفرة. وعرفت أن تتجدّد لأنها كانت تعيش بالرجاء أن لها بعد الموت مجد القيامة مع السيد المسيح. ووصلت إلينا هذه الرسالة.
إنها تحدٍّ كبير أن نحمل دور ورسالة كنيستنا. وهذا ما قاله لنا الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني يوم جاء يزورنا في لبنان سنة 1997 لكي يشجعنا على حمل رسالة كنيستنا في لبنان وفي الشرق والعالم. وقال لنا: أنتم تحملون رسالة أرضكم المقدسة ووطنكم لبنان «الوطن الرسالة»، رسالة المحبة والمصالحة، رسالة الإنفتاح، رسالة احترام كرامة وحرية الإنسان، رسالة العيش الواحد باحترام التنوّع والتعددية.
وهكذا سيقول لنا يوم غد قداسةُ البابا بنديكتوس السادس عشر لأنه سيأتي إلينا حاملاً إرشاداً رسولياً جديداً يشجعنا فيه على متابعة حمل رسالة كنيستنا، كنيسة المسيح في لبنان وفي أرض المسيح في هذا المشرق. وسيقول لنا: لا تخافوا ! أنتم شهود المسيح في أرض المسيح.
وجودنا هذه الليلة على هذه التلة بالذات المشرفة على كل رعايانا وعلى منطقتنا وبحرنا يثبت أننا أبناء وبنات أجداد وكنيسة وشعب قاسوا العذابات والإضطهادات والحروب في سبيل أن يبقوا ثابتين بإيمانهم وثقتهم بالله ومتمسكين بأرضهم المقدسة وبقيم عائلاتنا وكنيستنا، وهي قيم المحبة والتضامن والإخلاص والتعامل بصدق واحترام.
إنها دعوة لنا جميعاً كي نحمل هذه الرسالة ونبقى ثابتين فيها.
نحن لسنا خائفين. نحن أقوياء اليوم أكثر من أي يوم مضى في تاريخ كنيستنا وشعبنا ووطننا.
نحن موحّدون كما كنا منذ نشأة كنيستنا مع مار يوحنا مارون في كفرحي، وباقون موّحدين حول رأس كنيستنا ومرجعنا الوحيد البطريرك؛ نحن موحّدون منذ يوحنا مارون حتى البطريرك السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي ومن يأتي بعدهم. لأن في هذه الوحدة ضمانتنا الوحيدة. كنيستنا باقية ونحن باقون. والبرهان أننا اليوم نصلّي على هذه التلّة وأمام تمثال العذراء مريم شفيعتنا وأمنا وسيدة لبنان.
لا تخافوا إذاً. والصليب يبقى بالنسبة إلينا قوتنا كما كان لنا في لبنان وفي الشرق كله. سيبقى الصليب منارةً لنا ورمزاً لمجد القيامة مع السيد المسيح. وكلما رسمنا على صدورنا إشارة الصليب نعرف أننا نقوى على كل الصعوبات، ونشهد للمحبة بالمغفرة والمصالحة. وأننا باقون في أرض المسيح رسلَ محبة ومصالحة وسلام. آمين.