عظة المطران خيرالله في الزيارة الراعوية لرعية راشانا 9-9-2012

عظة المطران منير خيرالله
في الزيارة الرعائية لرعية راشانا
الأحد 9 أيلول 2012
 
« اللهم أغفر لي، أنا الخاطئ» (لوقا 18/12).
 
قدس المونسنيور العزيز آميل شاهين الجزيل الإحترام
أحبائي ابناء وبنات راشانا ولي بينكم أهل وأصدقاء وأحباء.
 
أحتفل معكم اليوم بتأثر عميق بالقداس الإلهي لمناسبة عيد ميلاد سيدتنا مريم العذراء لكي أجدد معكم إيماني بالرب يسوع الذي أوكلني رعاية أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين. ولأني أيضاً في راشانا بين أهلي وأحبابي، وفي رعية حاملة تراث كبير وطني وكنسي، وحاملة تراث فني وثقافي. وراشانا معروفة أنها بلدة المؤمنين والفنانين والمثقفين.
لذا فإني أتهيّب الموقف بينكم ومعكم أمام الله. وأنا أعود إلى كلام الله الذي سمعناه في إنجيل ايوم: صلاة الفريسي وصلاة العشار الذي أقام في مؤخرة الكنيسة قارعاً صدره يقول: اللهم إغفر لي، أنا الخاطئ. والأمثولة هي: من واضع نفسه يرفعه الله، ومن رفع نفسه يواضعه الله ويفرفك أنفه، كما أنشدت مريم في نشيد شكرها لله هو الذي يُنزل المتكبرين عن الكراسي ويرفع المتواضعين. هذه هي مريم أم الله وأم الكنيسة وأمنا جميعاً.
فإني أدعوكم اليوم إلى أن نعود جميعاً إلى أصالة إيماننا وإلى ينابيع روحانيتنا المارونية النسكية. وكنيسة راشانا على اسم مارون هي من الكنائس القليلة جداً التي شُيّدت على اسم مارون، الأب الروحي لكنيستنا. لذا فإنه علينا اليوم أن نعود إلى الروحانية التي رسمها مار مارون والتي وضع إطارها في كنيسة بطريركية مار يوحنا مارون مؤسساً كنيستنا في كفرحي جارتنا. وهذه هي الروحانية التي عاشها بعدهما تلاميذ مارون وشعب مارون على مرّ العصور.
إنها عودة إلى أصالة ما عاشه آباؤنا وأجدادنا. والروحانية النسكية قامت على البُعد العمودي وعلى البعد الأفقي. في البعد العمودي، كما أرادها مار مارون الذي ترك الدنيا وصعد إلى قمة جبل قورش ليتنسك هناك، شعر مار مارون أنه قريب من الله. وتنسك في الصلاة والتجرّد والتقشف والصوم المستمرّ ثم في العمل في الأرض. هذا البُعد جعله يكون في تواصل دائم مع الله. وفي البُعد الأفقي، روحانيتنا النسكية هي تواصل البشر مع بعضهم البعض. فلم يكتفِ مارون بأن يبتعد عن العالم، بل كان في متناول الناس الذين كانوا يقصدونه ليسترشدوا بتعليمه، وهو الذي طلب منه مطرانه أن يصبح كاهناً ليمنح الأسرار للمؤمنين. فكان الله يؤتي الآيات على يده. كان في تواصل مع الناس؛ علّمهم الصلاة والاقتراب من الله وعيش المحبة والتضامن.
روحانية مارون النسكية عبرت في كنيستنا وشعبنا لمئات السنوات ووصلت إلينا. حافظ شعبنا على مقوّمات تلك الروحانية. فاختاروا أن يعيشوا على قمم جبال لبنان أو في قعر وديانه، والوادي كما كان يردّد الأب ميشال الحايك هو جبل مقلوب والروحانية هي نفسها. وعاشوا في تنسك، أي في صلاة مستمرّة وصوم وتقشف؛ قبلوا كل التضحيات في هذه الجبال الصخرية الوعرة الصلبة؛ ابتعدوا عن العالم واقتربوا من الله. واجهوا كل التحديات والحروب والاضطهادات بإيمان ثابت وبثقة بالله لا حدّ لها. ثم عاشوا مع بعضهم البعض في هذه الأرض المقدسة بمحبة وتضامن وصدق وإخلاص. وهذه هي قيمنا المارونية التي تربّت عليها وربّت عليها عائلاتنا القديسة وأثمرت قديسين وقديسات. وأرض البترون هي أكبر مثال على ذلك.
فنحن اليوم أمام هذا الإرث العظيم نقف ونتحمل مسؤولياتنا الجسام لكي نبقى ثابتين في روحانيتنا النسكية وصامدين في إيماننا بالله وثقتنا به. أن نبقى متمسكين بالقيم التي نقلها إلينا آباؤنا وأجدادنا. مطلوب منا اليوم أكثر من كل يوم أن نعود إلى عيش المحبة بين بعضنا البعض، إلى انفتاح القلوب، إلى التضامن والوحدة. فنحن ورثة كنيسة وشعب بقيا دوماً ثابتَيْن في الوحدة، حول البطريرك، رأس الكنيسة ومرجعها الوحيد. مطلوب منا اليوم أن نتوحّد حول بطريركنا. فكما كانت كنيستنا منذ تأسيسها مع البطريرك الأول يوحنا مارون وكما استمرّت طيلة تاريخها، مطلوب منها اليوم أن تبقى حول بطريركها السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي موحدة. هي الكنيسة الوحيدة في هذا الشرق التي لم تنقسم على ذاتها. فلماذا تنقسم اليوم ؟ لا وألف لا.
لا تصدّقوا ما يقوله الناس إننا مشرذمون ومنقسمون. نحن موحّدون والسياسة لا تفرّقنا لأنها عابرة ومحطاتها مؤقتة ومتنقلّة. أما نحن فباقون وموحدون. لا تخافوا !
نحن أقوياء. نحن اليوم أقوى من كل يوم في تاريخ كنيستنا. ما مرّ على آبائنا وأجدادنا كان أقسى بكثير مما يمرّ علينا اليوم. فمصاعبنا اليوم هي لا شيء بالنسبة إلى الماضي. سنبقى أقوياء بوحدتنا وبثقتنا بالله. سنبقى أقوياء بتمسكنا بأرضنا أرض لبنان المقدسة، أرض الله؛ فهي وقف لله وليست لنا. لا نملك شيئاً منها حتى ولو كنا نحمل الصكوك فيها. إنها ملك لله. فيجب علينا أن نحافظ عليها، وأن لا نفرّط بها. وكما وصلت إلينا خالصة من آبائنا وأجدادنا، فعلينا نحن أيضاً أن ننقلها خالصة وكاملة إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة.
وأن لا نبيعها حتى ولو بأغلى الأثمان؛ والإغراءات كثيرة.
مسؤوليتنا ثالثاً هي أن نتمسك بالقيم المارونية التي ربّت عليها عائلاتنا وستربّي عليها عائلاتنا اليوم أولادنا وأجيالنا الطالعة.
لذا فإني وضعت لبرنامج أسقفيتي بينكم أولويات راعوية ثلاث: التجدّد الروحي، ونحن ابناء أبرشية القداسة والقديسين؛ التجدّد في الأشخاص ومسؤولياتنا كبيرة؛ والتجدّد في المؤسسات كي نجدّد كنيستنا كما بدأ البطريرك مار بشاره بطرس الراعي بمأسسة الكنيسة؛ وهذا هو برنامجه الذي وضعه لخدمة البطريركية، وهو برنامج كنيستنا في المجمع البطريركي الماروني للسنوات الخمسين أو المئة المقبلة. فتتجدّد مؤسساتنا وتُظهر وجه المسيح الذي يخدم في المحبة ومجاناً. وهذا هو شعاري: أنا بينكم خادم المحبة.
إني أدعوكم جميعاً، يا أهلي وأحبائي إلى تحمّل المسؤولية معي، كما بدأت ذلك مع إخوتي الكهنة في الأبرشية؛ فنتحمل معاً مسؤولية قيادة ورعاية أبرشيتنا نحو القداسة التي يدعونا إليها الله. وكلنا نستطيع أن نكون قديسين.
إني أقدّم قداسي اليوم من أجلكم جميعاً، أنتم الحاضرين، ومن أجل الغائبين والمنتشرين في العالم وهم كثيرون، ومن أجل جميع الذين سبقونا من هذه الرعية الحبيبة إلى ملكوت الآب السماوي من علمانيين وكهنة، وأخصّ منهم الأب ميشال خليفه.
وأطلب من الله أن يقوّينا جميعاً كي نبقى في أرضنا وكنيستنا وأبرشيتنا شهوداً للمسيح بعيش قيمنا المارونية ونثبّت أننا حاملو درو ورسالة لبنان، «الوطن الرسالة»، رسالة الانفتاح والمحبة والسلام واحترام الإنسان في تنوّع الحضارات والثقافات والطوائف والأديان. آمين.