عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية جبلا لمناسبة ليلة عيد شفيعها مار ميخائيل
الأربعاء 5 أيلول 2012
«إن ملائكتهم في السماوات يشاهدون وجه أبي ».
حضرة الخوري جورج (عبدالله) خادم هذه الرعية الحبيبة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات جبلا.
بـتأثر عميق أنا معكم اليوم في ليلة عيد شفيع رعيتكم رئيس الملائكة مار ميخائيل. وأتأثر أكثر لأني أعود معكم إلى ثلاثة وعشرين سنة خلت يوم كنت خادماً لكم ولرعيتكم. وكنت بمحبة وبفرح أرافق كل واحد منكم، الصغار والشباب والصبايا والكبار وكل عائلة من عائلاتكم، في جبلا وفي البترون وأبعد من البترون.
واليوم أحتفل معكم للمرة الأولى وأنا مطران أبرشيتكم وخادمكم في المحبة.
فمنذ رسامتي الأسقفية أتخذت لي القديسة رفقا شفيعةً وخدمة المحبة شعاراً: «أنا بينكم خادم المحبة». لأن الأسقفية هي أولاً وآخراً خدمة تشبهاً بالمسيح الذي جاء ليخدم الناس لا ليُخدم من الناس. وقَلَبَ كل المقاييس. هو ابن الله ارتضى أن يصير إنساناً ويحمل إنسانيتنا الضعيفة على دروب هذه الأرض التي عاش عليها وقدسها حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، لكي بقيامته يعطينا جميعاً الحياة الأبدية، ولكي نصبح بموته وقيامته أبناءً لله وورثةً لملكوته في السماوات. حجز لنا مكاناً في الملكوت وقال لنا، كما سمعنا في إنجيل العيد اليوم: إن لم تعودوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات. وهؤلاء الأطفال، أي كلكم كمؤمنين، ملائكتكم يرافقونكم ويشاهدون كل ما تقومون به وتعيشونه من عند أبي الذي في السماوات. والملائكة القائمون حول الله يمجدونه في كل حين أقامهم الله شفعاء ومرافقين لنا.
ومار ميخائيل رئيس الملائكة يدعونا إلى أن نعود ونصير كالأطفال، أي أن نعيش براءة الأطفال ومحبتهم وعفويتهم والقلب المفتوح للجميع. أن نعود إلى تلك القيم التي تربينا عليها كلنا في عائلاتنا، في شعبنا وفي كنيستنا.
وقيمنا المسيحية والمارونية هي: المحبة والتضامن والتعامل بإخلاص وصدق واحترام الإنسان والتعامل مع كل إنسان بحرية وكرامة. هذه هي قيمنا التي قامت عليها كنيستنا وصمد من خلالها شعبنا مئات السنوات في وجه التحديات والإضطهادات والحروب، وبقوا ثابتين في إيمانهم بالله، وثابتين في عيشهم للقيم، وثابتين في تمسّكهم بأرضهم المقدسة.
لذا فإني أدعوكم جميعاً في ليلة عيد شفيعنا مار ميخائيل إلى العودة إلى أصالة دعوتنا، الدعوة التي دعانا إليها الله، وهي الدعوة إلى القداسة.
فقد وضعت برنامجاً لخدمتي الأسقفية بينكم، لأخدمكم في المحبة مجاناً وبعطاء كامل، في أولويات راعوية ثلاث.
أولاً، التجدّد الروحي. إني أدعوكم إلى أن نتجدّد روحياً؛ أن نتجدّد في علاقتنا مع الله وفي علاقتنا مع بعضنا البعض. إنها عناصر روحانيتنا النسكية التي تركها لنا مار مارون وقام عليها مار يوحنا مارون بتأسيس كنيستنا وبطريركيتنا المارونية في كفرحي، جارتكم القريبة. وهذه هي الروحانية التي عاشها آباؤنا وأجدادنا. فكانوا على تواصل مباشر مع الله، وهذا هو البُعد العمودي، وعلى تواصل مع بعضهم البعض بالمحبة والإنفتاح والإحترام المتبادل، وهذا هو البُعد الأفقي.
أدعوكم إلى أن نتجدّد روحياً بالصلاة التي دأبت عليها عائلاتنا وأن نربّي أولادنا عليها، حتى ولو كانت أمور هذه الدنيا تشغلنا عن الصلاة. ونحن أبناء أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين، أبناء أرض لبنان المقدسة التي اتخذها الله وقفاً. فهي ليست ملكاً لنا، حتى ولو تملّكنا صكوكها.
ثانياً، التجدّد في الأشخاص. بعد أن نقوم بالتجدّد الروحي، علينا أن نتجدّد كأشخاص. وهذا بدأته بذاتي ومع إخوتي الكهنة والرهبان والراهبات. وطلبت من ذاتي ومنهم أن نتجدّد نحن أولاً كي نكون لكم قدوةً ومثلاً. أن نتجدّد بالتزامنا الكهنوتي والرهباني لخدمتكم في المحبة، وبالتزامنا الإجتماعي والإنساني فنخدم الناس كما خدمهم السيد المسيح.
ثالثاً، التجدّد في المؤسسات. وأردتُ من خلال ذلك أن تتجدد مؤسساتنا، بعد المجمع البطريركي الماروني الذي عملنا له أكثر من خمس وعشرين سنة. هذا هو البرنامج الذي وضعه غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي في أولويات خدمته البطريركية؛ وبدأ بمأسسة الكنيسة وبتنظيم دوائرها ومؤسساتها. وهذا ما سأعمله أنا أيضاً لمأسسة الأبرشية، بدءاً بمؤسسة المطرانية ودوائرها ولجانها وجمعياتها ورعاياها ولجان أوقافها، لكي نكون على أهبة لخدمة شعبنا اليوم. وتعرفون كم يحمل شعبنا من هموم كبيرة. والكنيسة هي نحن كلنا المعمّدون. الكنيسة ليست المطران والكهنة والرهبان. وكل واحد منا هو حجر في بناء الكنيسة، وله مكانته في هذا البناء. والكنيسة عليها أن تُظهر اليوم وجه المسيح الذي يخدم في المحبة.
هذا هو هدف التجدّد على كل المستويات. فنتحمّل معاً مسؤولية القيام بأبرشيتنا التي هي كنيسة المسيح في البترون، الحاملة تراثاً عريقاً ولها تاريخ حافل. وأن نتعاون في سبيل أن نلبّي دعوة الله لنا في القداسة. وكلنا نستطيع أن نكون قديسين. والقديسون من أبرشيتنا، المعلنون وغير المعلنين، تقدسوا بفضل التربية التي تربّوا عليها في عائلاتهم، لأن عائلاتنا كانت قديسة.
علينا أن نتقدّس وأن نربي أولادنا وأجيالنا الطالعة على هذه الدعوة إلى القداسة، فنكون شهوداً للمسيح في عالمنا. ونحمل معاً رسالة كنيستنا ودورها في لبنان وفي الشرق وفي العالم، ورسالة وطننا لبنان الذي هو الوطن الرسالة كما قال لنا الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني الذي جاء لزيارتنا سنة 1997. وهذا ما سيقوله لنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر بعد عشرة أيام حين يأتي لزيارتنا. وسيردّد على مسامعنا: أنتم مسؤولون عن حمل رسالة كنيستكم ووطنكم لبنان تجاه إخوتكم المسيحيين والمسلمين الذين تعيشون معهم في هذا الشرق في المحبة والإنفتاح والحرية واحترام التعددية.
قداس اليوم أقدّمه من أجلكم جميعاً، أنتم الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم، ومن أجل كل الذين سبقونا من هذه الرعية إلى ملكوت الآب السماوي وهم يشفعون بنا، لكي نتقدس كلنا ونصبح شهوداً للمسيح خادم الإنسان في المحبة آمين.