عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية بقسميا لمناسبة ليلة عيد شفيعها مار سمعان العمودي
الجمعة 31 آب 2012
«إذهب وبع كل ما لك فيكون لك كنز في السماء» (لوقا 18/22)
حضرة الخوري جورج (عبدالله) خادم هذه الرعية الحبيبة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات بقسميا الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم
بتأثر عميق أحتفل معكم اليوم، وللمرة الأولى مطراناً، بعيد شفيع رعيتنا مار سمعان العمودي. وأحتفل معكم وأنا كلّي محبة لكم جميعاً. لأن الذكرى تعود بي إلى اثني وعشرين سنة، ولأن علاقة الصداقة والمحبة لم تنقطع بيننا، ولأن كل أبناء هذه الرعية لا زالوا يحافظون على إرث الآباء والأجداد. وإني لاحظت أن الرعية تطوّرت وتقدّمت في حبّ الله وفي خدمة الكنيسة وفي خدمة بعضكم البعض. هذا يعني أن الكنيسة هي نحن كلنا، وكلنا فيها نعبر، وكل واحد حجرة في بناء الكنيسة، الحجر والبشر. كما أنا أخذت عن سلفي سيادة المطران يوسف ضرغام إرثاً عريقاً وأكملت ما بدأ به عملاً وخدمة في هذه الرعية، كذلك من جاء بعدي الخوري بطرس، اليوم النائب العام، ثم الخوري جورج. المهم أنكم أنتم الكنيسة، وأنتم تبنون الكنيسة، كنيسة المسيح في البشر والحجر. وكل واحد منا يساهم بمقدار ما أعطاه الله.
عيد مار سمعان العمودي يعيدنا اليوم إلى أصالة دعوتنا في الحياة النسكية، نحن أبناء مارون وتلاميذ سمعان العمودي، صديق مار مارون، وحاملي تراث غني. فإذا كنت اليوم مطراناً لكم ولخدمتكم أحمل هذا الإسكيم لأني أعود في دعوتي في الأساس إلى ما تركه لنا مار مارون ومار سمعان العمودي.
ومار مارون الذي رسم عناصر الحياة النسكية، وشعبه بعده تابع هذه الحياة؛ وإذا كان سمعان العمودي زاد على العناصر النسكية التجرّد والتنسك على العمود، فكان بين مار مارون ومار سمعان العمودي تكامل في تطبيق تعاليم المسيح في الإنجيل، في مطلقية العيش المسيحي.
لا نستطيع أن نساوم في عيشنا مع المسيح: إما نكون معه وإما ضده. وكلامنا يكون نعم نعم أو لا لا.
والمسيح الذي قال لمعلّم الشريعة، في إنجيل اليوم، تعوزك واحدة: إذهب بعْ ما لك وزّعه على الفقراء وتجرّد عن هذه الدنيا فيكون لك كنز في السماوات وتعال فاتبعني. إما أن نختار الكنز في السماء أو نختار كنوز الأرض وكلها فانية.
مار مارون ومار سمعان العمودي اختارا مطلقة العيش الإنجيلي في حياة نسكية متجردة تكرّس ذاتها لله.
تلاميذ مار مارون أتوا إلى هذه الأرض التي نعيش نحن عليها، إلى جرود جبيل والبترون؛ أتوا يبشرون بالمسيح ويعيشون حياتهم النسكية.
ثم أتى تلاميذ مار سمعان العمودي إلى جرود الجبّة ليتابعوا التبشير بالمسيح ويعيشوا مقومات الحياة النسكية التي تقرّبنا عمودياً من الله – هي الروحانية العمودية – وتقرّبنا أفقياً في تواصل بين بعضنا البعض لنعيش المحبة. وهي وصية المسيح الوحيدة.
لذا فإني أدعوكم اليوم إلى أن تتحملوا معي مسؤولية ما وضعته من برنامج لخدمتي الأسقفية بينكم. وشعاري هو خدمة المحبة: «أنا بينكم خادم المحبة». والأسقفية هي أولاً وآخراً خدمة في المحبة تشبهاً بالمسيح المعلّم الإلهي والراعي الصالح.
ووضعت في برنامجي أولويات راعوية ثلاث.
أولاً: التجدّد الروحي، لأننا كلنا أبناء منطقة وأبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين، نعيش على أرض قداسة وقديسين، فنحن مدعوون إلى أن نتجدّد روحياً في الدعوة التي دعانا إليها الله: أن نكون قديسين. ونعرف أن من يعيش في هذه المنطقة لا يستطيع إلا أن يكون قديساً. هكذا تقدس كل من سبقنا.
تقدسوا أولاً في هذه الأرض. وتقدسوا ثانياً في عائلاتهم؛ لأن عائلاتنا كانت تعيش القيم الإنجيلية المطلقة؛ وأعطت قديسين وقديسات. وإذا كنا اليوم نعلن إيماننا بالمسيح وتعلّقنا بتاريخ كنيستنا وشعب مارون، ذلك لأننا تربينا في عائلات نقلت إلينا ما نُقل إليها من تراث عريق. ونستيطع ذلك إذا قررنا أن نتجدد روحياً.
دعوتي لكم ولكل أبناء وبنات أبرشية البترون إلى التجدّد الروحي في العودة إلى جذورنا وينابيعنا الروحانية وإلى أصالة الإيمان الذي نقل إلينا منذ مار مارون ومار سمعان العمودي حتى اليوم.
ثانياً: وضعت في أولوياتي الراعوية التجدّد في الأشخاص. أن نتجدّد ليس فقط ككنيسة بل كأشخاص. وكل واحد منا عليه أن يعد الرب بأن يتجدد في التزامه الشخصي، فيكون مسيحياً شاهداً للمسيح. بدأت أطلب من ذاتي أولاً، ثم من إخوتي الكهنة والرهبان والراهبات، أن نتجدد نحن قبل أن نطلب من شعبنا التجدّد لنكون مثالاً لهم. وهكذا وعدنا الرب بأن نتجدّد نحن؛ فتصبح أديارنا منارة إشعاع روحي وإنساني وثقافي، وتصبح رعايانا واحاتٍ روحية تتجلّى فيها محبة الله والإنسان من خلال كل الجمعيات والأخويات.
ثالثاً: وضعت في أولوياتي الراعوية التجدّد في المؤسسات، لكي نبدأ نحن بمأسسة كنيستنا، كما بدأ غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي ووضع في أولويات بطريركيته مأسسة الكنيسة تطبيقاً للمجمع البطريركي الماروني الذي عملنا له لمدة خمس وعشرين سنة.
وان تتجدّد أبرشية البترون في كل مؤسساتها، بدءاً من المطرانية والدوائر، ثم كل اللجان والجمعيات، لكي نُظهر وجه المسيح في كنيسة البترون في خدمة المحبة. والهدف من كل ذلك أن نخدم إخوتنا المؤمنين في المحبة. وأنا واثق من أنكم ستتحملون معي هذه المسؤولية الكبيرة. ونبقى كلنا أوفياء لمسيرة كنيستنا.
نحن أقوياء اليوم، واليوم اقوى من كل يوم مضى في تاريخنا. لا تخافوا. لا تصدقوا ما يقوله بعض الناس أننا مشرذمون ومنقسمون. وإذا راجعنا في ذاكرتنا التاريخية ما عاش آباؤنا وأجدادنا منذ مار مارون ومار يوحنا مارون وما قاسوا من إضطهادات وصعوبات وحروب، نرى أن ما نعيشه اليوم لا يساوي شيئاً بالمقارنة مع تضحياتهم. وقد صمدوا في إيمانهم وثبتوا في أرضهم المقدسة وتمسّكوا بقيم عائلاتهم.
نحن أقوياء لأننا موحّدون حول رأس كنيستنا وشعبنا البطريرك، كما كنا منذ أول تاريخنا حول مار يوحنا مارون الذي أنشأ كنيستنا وبطريركيتنا في كفرحي جارتنا، وكما بقينا حتى البطريرك السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي.
لا تخافوا، لا علينا ولا على أولادنا ولا على أحفادنا.
وطالما أن عائلاتنا لا تزال تربي على القيم المسيحية والمارونية، فلا خوف علينا. هذا ما يحمّلنا مسؤولية جسيمة لنبقى شهوداً للمسيح في هذه الأرض، ونبقى صانعي هذا الوطن لبنان، الوطن الرسالة، رسالة الإنفتاح والتضامن واحترام الإنسان والتنوع والتعددية.
هذه هي رسالتنا وهذا هو دورنا، وهذه هي شهادتنا للمسيح في لبنان وفي الشرق وفي العالم كله. آمين