عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الرعائية لرعية كفرحتنا
الأحد 26 آب 2012
«أما مريم فقد اختارت لها النصيب الأفضل ولن ينزع منها» (لوقا 10/42)
أخي الخوري مارون خادم هذه الرعية الحبيبة إلى قلبي،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات كفرحتنا الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم إنكم الأقرب إلى قلبي منذ سنوات بعيدة، لأني لا زلت أذكر ما عشت معكم منذ أن كنت كاهناً جديداً وقمت بزيارات إلى كل رعايا الأبرشية سنة 1977-1978 بصحبة صورة القديس شربل، وكان قد أعلن قديساً منذ أسابيع. وكان لي محطة لن أنساها في كفرحتنا.
هذا ما يربطني بكم في المسيح وفي الكنيسة. وما عشناه معاً سيبقى لنا مرجعاً في ذاكرتنا التاريخية لكي، ليس فقط نذكره نحن، بل أيضاً لننقله إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة.
سأبدأ بتعليم المسيح في إنجيل اليوم: «أما مريم فقد اختارت لها النصيب الأفضل ولن ينزع منها». هذه هي حالكم؛ أنتم الذين اخترتم لكم النصيب الأفضل. أي أنكم اخترتم أن تكونوا للملكوت. المطلوب واحد: أطلبوا ملكوت الله وبرّه والباقي يعطى لكم ويزاد. لا تهتموا بأمور هذه الدنيا. إنما علينا أن نهتمّ بخلاصنا، أن تكون كل أعمالنا على هذه الأرض في سبيل خلاصنا وعبورنا إلى الملكوت السماوي.
هذه هي حالكم؛ لأنكم تلقيتم من الآباء والأجداد ما تعملونه لتكونوا للملكوت. أي أن تعملوا بحسب القيم الإنجيلية والإنسانية والقيم المارونية بالذات التي تلقيناها من تعاليم المسيح ومن مار مارون وتلاميذه ومار يوحنا مارون الذي أسس البطريركية المارونية في كفرحي جارتكم. هذه القيم تلقاها آباؤنا وأجدادنا وعاشوا عليها. قَبِلوا أن يقاسوا كل الصعوبات والتضحيات والإضطهادات في سبيل أن يبقوا ثابتين في إيمانهم وثقتهم بالرب يسوع. وأن يبقوا متمسكين بأرضهم المقدسة؛ هذه الأرض التي قدسها المسيح والتي اختارها الله له وقفاً. وأن يبقوا متمسّكين بالقيم المارونية التي هي المحبة والتضامن والإخلاص والتعاون والإنفتاح على الآخر واحترام الإنسان كل إنسان.
هذه هي قيمهم، حافظوا عليها كلهم ونقلوها إلينا.
وأنتم اخترتم لكم النصيب الأفضل أن تعيشوا بحسب هذه القيم. لذا فإنكم اليوم تتحمّلون المسؤولية الكبرى في المحافظة على تلك القيم وتلك الثوابت.
أولاً أن تتمسكوا بإيمانكم بالرغم من كل التحديات التي تواجهنا اليوم وهي ليست بشيء بالنسبة إلى التحديات التي واجهها آباؤنا وأجدادنا.
ثانياً أن تتمسكوا بأرضنا المقدسة. إنها وقف لله. ليست ملكاً لنا. نحن وكلاء على أرض الله في منطقة البترون وفي لبنان. علينا إذاً أن لا نفرّط بها وأن لا نبيعها ولو بأغلى الأثمان. نُقلت إلينا كاملةً وعلينا أن ننقلها إلى أجيالنا الطالعة.
وثالثاً أن تتمسكوا بقيمنا المسيحية والمارونية بالذات وأن تعيشوا عليها اليوم كما كل يوم. أن نعيش بين بعضنا البعض المحبة أولاً وآخراً. ومن المحبة تنبع كل القيم، أي احترام الآخر واحترام التنوع في الآراء، والحرية وهي ضمانتنا الأكيدة لأنها أولى القيم التي حافظنا عليها في كنيستنا وشعبنا. وأن تتمسكوا بقيم العائلة. فالعائلة هي أساس وركيزة الكنيسة والمجتمع والوطن.
تعالوا نربي أولادنا وأجيالنا الطالعة كما تربّينا نحن؛ وننقل إليهم كل هذا الإرث العريق الذي نُقل إلينا بأمانة في كنيستنا.
أنا اخترت شعاري في خدمتي الأسقفية، والأسقفية هي أولاً وآخراً خدمة لشعب الله، «أنا بينكم خادم المحبة»، لكي أخدمكم مجاناً وبمحبة لا حدود لها متشبهاً بالسيد المسيح الذي ارتضى أن يصير إنساناً ليخدمنا في المحبة ويخلصنا بموته وقيامته. سأخدمكم بدون تمييز وبدون إستثناء. وأطلب منكم أن تبادلوني وتبادلوا بعضكم بعضاً المحبة. لأنها الوصية الوحيدة التي تركها لنا السيد المسيح: أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. وإذا عشتم المحبة يعرف العالم أنكم حقاً تلاميذي. والمحبة تخدم بدون مصلحة. المحبة تعطي ذاتها. المحبة لا تحكم على الآخر. المحبة تسامح وتغفر.
هكذا أريد أن أعيش بينكم؛ وهكذا أريد أن أدعو كل أبناء أبرشية البترون إلى عيش المحبة.
وأدعوكم كذلك إلى أن تحملوا معي الأولويات الراعوية الثلاث التي وضعتها في برنامج خدمتي الأسقفية.
أولاً التجدّد الروحي. تعالوا نتجدّد روحياً، لأننا ابناء ابرشية القداسة والقديسين، بالعودة إلى جذورنا الروحانية المارونية النسكية في الأصل. والروحانية النسكية، كما عاشها مار مارون وتلاميذه ويوحنا مارون البطريرك الأول وكل شعبه من بعده، هي تطبيق لتعاليم المسيح في الإنجيل، وهي تجرّد عن العالم وملذاته ومغرياته للاتصال بالله عمودياً والتواصل مع إخوتنا البشر أفقياً بالمحبة.
ثانياً التجدّد في الأشخاص، بدأ بالمطران والكهنة والرهبان والراهبات وقد طلبت منهم أن يعيشوا هم أولاً التجدّد، ثم إليكم جميعاً الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والشباب والصبايا والأطفال. أن نتجدّد في أشخاصنا كي نستحق نعمة الله لنا.
وثالثاً التجدّد في المؤسسات. بدء بتجديد المؤسسات غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي البطريرك السابع والسبعون ووضع في أولويات بطريركيته ما علّمه المجمع البطريركي الماروني مأسسة الكنيسة. وأنا أيضاً سأبدأ بمأسسة الأبرشية وسأعمل على تنظيمها بكل مؤسساتها، في دوائر المطرانية واللجان والجمعيات والأخويات. سنتجدد كلنا مع مؤسساتنا لكي نظهر بوجه جديد لخدمة شعبنا في المحبة.
وهذا التجدّد له قوانين وله أصول. الأهم أن يكون مرتكزاً على المحبة.
ومن قوانينه وأصوله أن يكون كل من يريد أن يخدم في الكنيسة ومؤسساتها أن يكون ابن الكنيسة، وملتزماً برسالتها، وملتزماً بخدمة شعب الله بمجانية ومن دون مصلحة. فالخدمة في الكنيسة ليست جاهاً ولا جسراً للعبور إلى أي مركز اجتماعي أوسياسي.
وتكون بذلك أبرشيتنا تعيش دعوة الله لها إلى القداسة، أي أن تبقى أبرشية القداسة والقديسين. وهذه الدعوة نتجاوب معها أولاً في عائلاتنا لأنها هي المربية لتلك القيم.
لا تخافوا ! نحن أقوياء بالمسيح. ونحن اليوم أقوى من كل يوم في تاريخنا. لسنا منقسمين ولا مشرذمين. لا تصدّقوا ما يقوله الناس. نحن موحدون حول رأس كنيستنا ومرجعنا الوحيد البطريرك، كما كان شعبنا وكنيستنا متضامنين وموحدين حول رأسهم، منذ البطريرك الأول يوحنا مارون وحتى البطريرك السابع والسبعين ومن بعده.
نحن أقوياء بعيشنا لقيمنا. نحن أقوياء بعائلاتنا طالما هي تربّي على قيمنا وثوابتنا.
تعالوا نشكر الله معاً على كل نعمة لنا، ونطلب منه، بشفاعة السيدة مريم العذراء ومار شليطا شفيعكم، ومار مارون وكل قديسينا، أن يقوينا على حمل مسؤولياتنا والشهادة للمسيح. آمين.