عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الرعائية لرعية محمرش، لمناسبة عيد شفيعها مار روكز
الأحد 19 آب 2012
« خرج الزارع ليزرع زرعه» (لوقا 8/5).
حضرة الخوري يوحنا مراد خادم هذه الرعية الحبيبة،
أحبائي أبناء وبنات محمرش، وأعرف وجوه الكثيرين منكم.
بفرح كبير أحتفل معكم اليوم بعيد مار روكز شفيع هذه الرعية وشفيع عائلاتها، ولمناسبة اليوبيل المئوي الأول لبناء هذه الكنيسة التي تحمل تاريخاً عريقاً، تاريخ آبائنا وأجدادنا الذين صلّوا فيها وسلّموا ذواتهم لله بثقة وإيمان كبيرين، واتخذوا شفيعاً لهم مار روكز.
وأنا أحتفل بهذه الذبيحة من أجلكم جميعاً، الحاضرين والغائبين، والمنتشرين في العالم. ومن أجل كل الذين سبقونا إلى دار الحياة في الملكوت السماوي.
ولي ذكريات مؤثرة في محمرش، تعود بي إلى أولى سنوات كهنوتي مع الفرسان والطلائع والأخوية مع القديس شربل، الذي بعد إعلان قداسته في 9 تشرين الأول 1977، وكنت كاهناً منذ ثلاثة أسابيع، إتخذنا مع الخوري بطرس خليفه مرشد الأخويات في أبرشية البترون قراراً بأن نزور رعايا الأبرشية مع صورة مار شربل. وكان لي في محمرش محطة من المحطات الأولى في الزيارات الرعوية في رعايا الأبرشية التي قضيت فيها سنة كاملة أتنقل من رعية إلى رعية وأقضي في كل رعية اسبوعاً كاملاً في الرياضات الروحية والسهرات الإنجيلية والعمل الرسولي مع الفرسان والطلائع والأخويات.
وهكذا أخذنا من القديس شربل أمثولة قداسة.
ونحن نعيش في أبرشية البترون، أرض القداسة والقديسين، من شربل إلى نعمة الله إلى رفقا إلى الأخ اسطفان وغيرهم الكثيرين. أخذنا من حياة القديس شربل مثالاً لكي نمشي نحن أيضاً على درب القداسة. والله يدعونا إلى أن نكون قديسين. وكلنا نستطيع أن نكون قديسين، إذا عرفنا أن نقبل زرع الرب، أي كلمة الله.
هذا هو إنجيل اليوم. الزرع، في تعليم السيد المسيح، هو كلمة الله، الذي جاء الزارع يسوع المسيح يبذرها في أرضنا. وأرضنا هي أرض طيبة لأنها أرض مقدسة. هي أرض الله؛ اختارها الله له وقفاً. وبالتالي هي أرض لا نملكها نحن. ليست ملكاً لنا، هي ملك لله، ونحن وكلاء عليها. فمسؤوليتنا كبيرة أن نحافظ عليها. في طريقنا إلى القداسة نحن مسؤولون عن الحفاظ على أرضنا. لا يحق لنا أن نفرّط بها أو أن نبيعها بأغلى الأثمان أو أن نتخلّى عنها.
زرعُ الله وقع في أرض طيبة. وقع في قلوب آباء وأجداد لنا، سمعوها وعملوا بها، وعاشوا بحسب تعليم المسيح. فزرعُ كلمة الله لم يقع على الطريق لتدوسه الناس وتأكله طيور السماء. ولم يقع على الصخر لييبس لأن لا أصل له. ولم يقع بين الشوك، أي ملذات الدنيا ومغرياتها، فيخنقه. بل وقع في قلوب صالحة فأثمر ثماراً كثيرة. ومن هذه الثمار نحن، أنتم.
وهذه هي مسؤولية كبرى يحمّلنا إياها السيد المسيح أولاً، وكنيستنا ثانياً، وشعبنا وآباؤنا وأجدادنا ثالثاً؛ لأنهم قبلوا في مسار تاريخهم كل التضحيات، وواجهوا التحديات والمصاعب والاضطهادات والحروب بإيمان ثابت بالله وبقوا ثابتين في إيمانهم وفي أرضهم وفي القيم التي تربّوا عليها في عائلاتهم. فكانوا محافظين على ثوابت ثلاث: الإيمان بالله، والتمسّك بالأرض المقدسة، والتربية على القيم الإنجيلية المسيحية في عائلاتهم.
هذا ما نقله إلينا آباؤنا وأجدادنا. وهذا ما علينا نحن اليوم أن نحافظ عليه وأن ننقله إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة. فإذا كانوا قبلوا كل التضحيات ليعطوا ثماراً ونحن منها، فعلينا نحن أيضاً أن نعطي ثماراً لمستقبلنا البعيد. نحمل مسؤولية أن نربّي أولادنا كما تربينا نحن. تقولون اليوم: كيف نربّي أولادنا ونحن نعيش في أزمات كبيرة ؟ كيف نعلّمهم وكيف نطبّبهم ؟ وكيف نؤمّن لهم مستقبلاً ؟ ما قيمة هذا الكلام بالنسبة إلى ما عاشه آباؤنا وأجدادنا في القلّة والفقر ولكن بكرامة وحرية ورأس مرفوع ؟ قبلوا كل التضحيات في سبيل أولادهم. ولم يقولوا يوماً: نحن لا نقدر أن نربي أولادنا. هذه هي استقالة من المسؤولية. وهذا هو تراجع عن تاريخ عريق وإرث كبير لكنيسة وشعب عرفا التضحية والشهادة.
هل تعرفون أن تتكلوا على الله يوماً ؟ لماذا الاستقالة إذاً ؟
هل هي الأزمة الاقتصادية ؟ كلا. هل هي الأزمة الإجتماعية ؟ كلا. بل إنها أزمة قيم وأخلاق. فالقيم التي نُقلت إلينا من كنيستنا وشعبنا بُتنا ربما اليوم نفقدها. هذا هو الخطر الذي يدهمنا.
علينا إذاً أن نحافظ على تلك القيم، وهي التضامن والوحدة والمحبة والإخلاص والتضحية والإنفتاح على الآخر واحترام الإنسان. هي قيمنا المارونية.
هل تتراجعوا عنها ؟ كلا. لا تخافوا !
نحن اليوم أقوياء بالسيد المسيح، وأقوياء بإيماننا، وأقوياء بتاريخ كنيستنا وشعبنا. نحن أقوياء، أقوى من كل يوم في تاريخنا. ما يمرّ علينا اليوم لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى ما قاسى آباؤنا وأجدادنا. نسمع اليوم الناس يقولون: إننا مشرذمون ومنقسمون ! لا تصدّقوا. نحن موحّدون حول رأس كنيستنا ومرجعنا الذي هو البطريرك. فكنيستنا في كل تاريخها، منذ تأسيسها مع البطريرك الأول يوحنا مارون في كفرحي إلى البطريرك السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي، هي موحّدة حول رأسها البطريرك. ووحدتنا حول البطريرك هي رصيدنا وضمانتنا للمستقبل. لا تخافوا.
ما نحسب أننا خسرناه في الأزمنة الأخيرة هو لا شيء. لكن إذا خسرنا قيمنا وتاريخنا وإرثنا وتمسكنا بأرضنا المقدسة هناك يكون الخطر؛ وعلينا أن نواجهه معاً وبقلب واحد وإيمان ثابت.
إتخذت شعاري في خدمتي الأسقفية: أنا بينكم خادم المحبة، لكي أدعو الجميع إلى الخدمة في المحبة لنفتح أبواب قلوبنا على عيش المغفرة والمحبة.
أنا أدعوكم، في أولوياتي الراعوية، إلى التجدّد الروحي أولاً، لأننا في أبرشية القداسة. علينا أن نلبي دعوة الله لنا كي نتقدس كلنا في العودة إلى جذور روحانيتنا النسكية.
وثانياً إلى التجدد في الأشخاص، من الأسقف إلى الكهنة والرهبان والراهبات وإلى كل أب وأم وكل واحد منكم.
وثالثاً إلى التجدّد في المؤسسات، كل مؤسساتنا.
إني أدعوكم إلى أن تتحملوا معي المسؤولية. فلنتعاون ولنتجدد كلنا.
وقد بدأت ورشة التجدد مع أخوتي الكهنة وفي مؤسسات الأبرشية ولجان الأوقاف والجمعيات والأخويات.
فلنتجدّد كلنا لكي نبقى شهوداً للمسيح في أرضنا وفي وطننا لبنان وطن الرسالة. وكلنا جاهزون لهذا التجدّد، أعتقد. فتبقى أبرشيتنا شاهدة للقداسة ومنبعاً للقديسين. آمين.