عظة المطران خيرالله في قداس زيارة رعية شاتين 18-8-2012

عظة المطران منير خيرالله
في قداس زيارة رعية سيدة البشارة- شاتين
السبت 18 آب 2012
 
«خرج الزارع ليزرع زرعه» (لوقا 8/5).
 
حضرة الخوري بطرس بو فرنسيس، خادم هذه الرعية الحبيبة،
الأب جورج طربيه،
أحبائي أبناء وبنات شاتين الذين أعرف الكثيرين منكم.
 
        بفرح كبير وبفخر واعتزاز أحتفل معكم اليوم، وللمرة الأولى منذ رسامتي الأسقفية، بهذه الذبيحة الإلهية في كنيسة سيدة البشارة لأقدمها عنكم جميعاً: عن الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم وهم كثر، وعن كل الذين سبقونا إلى ملكوت الآب السماوي من كهنة ورهبان وآباء وأمهات وهم يشفعون بنا من السماء.
وإذ نحن نحتفل بعيد انتقال العذراء مريم إلى السماء بالنفس والجسد لأن الله كرّمها أماً له وكلّلها سلطانة على السماء والأرض، نسمع تعليم المسيح في إنجيل لوقا في مثل الزارع.
مثل الزارع هو كلام المسيح الأقرب إلينا، نحن أبناء هذه الأرض الطيبة، يدخل مباشرة إلى قلوبنا، وإلى تاريخنا ومسار كنيستنا الطويل، لأننا أبناء الأرض وأبناء الزرع الذي زرعه المسيح في أرض طيبة؛ ولأننا نسمع كلام الله ونعمل به في حياتنا وفاءً لتراث الآباء والأجداد الذين تعبوا في هذه الأرض التي كانت في الأصل أرضاً صخرية قاسية قاحلة لا ينبت فيها شيء، فحوّلوها إلى جنّات. أنظروا من حولكم. ذلك لأن آباءنا وأجدادنا ثبتوا في إيمانهم وعرفوا كيف يحوّلون هذه الأرض الصخرية إلى أرض تعطي ثماراً طيبة. وأنتم اليوم تقطفون ثمارها ومواسمها.
كيف ضحّى آباؤنا وبماذا ضحّوا وأعطوا لنقطف نحن المواسم الطيبة ؟
آباؤنا وأجدادنا بقوا ثابتين في إيمانهم بالله، وبقوا يسمعون دوماً تعليم المسيح، ومثل الزارع بالذات.
الزرع هو كلمة الله، والزارع هو المسيح ابن الله الذي صار إنساناً من فيض حب الله الآب وحمل إنسانيتنا بكل ما فيها من ضعف ونقص وحمل حتى خطايانا، حملها على هذه الأرض التي نعيش نحن عليها لأنه تجسّد فيها وتبنّى تاريخها وباركها وقدسها بمروره عليها؛ حمل إنسانيتنا حتى الصليب، حتى الموت على الصليب لكي يعطينا بقيامته الحياة. فأصبحنا، بموت وقيامة المسيح، أبناءً لله وورثةً لملكوته.
هكذا فهم آباؤنا تعليم المسيح. وهكذا قبلوا زرع الله. فالزرع الذي زرعه المسيح في أرضنا وقع في قلوبهم في أرض جيدة؛ لا على الطريق لتأكله طيور السماء؛ ولا على الصخر ليجُفّ لأن لا أصل له؛ ولا بين الشوك لتخنقه هموم الدنيا وملذاتها؛ بل وقع في أرض جيدة؛ فأعطى ثماراً طيبة، لأن في الأصل أرضهم طيبة، وإيمانهم ثابت. تحمّلوا الصعوبات والمشقات والاضطهادات وتحديات الزمن. قبلوا الفقر، لكنهم عاشوا بكرامتهم ورأسُهم مرفوع، قبلوا كل التحضيات في سبيل أن نبقى نحن ثابتين في إرثنا العريق الذي أخذوه من تعاليم المسيح في الإنجيل، والذي أخذوه من مار مارون أبي الروحانية المارونية التي أسسها على الحياة النسكية. والحياة النسكية التي عاشها مارمارون على قمة جبال قورش، وعاشها تلاميذ مارون وشعب مارون على قمم جبال لبنان أو في وديانه، أصبحت إرثاً عريقاً لآبائنا وأجدادنا حافظوا عليه في مواجهة كل التحديات؛ وبقوا مرفوعي الرأس يعيشون بكرامتهم وحريتهم ولا يخضعون سوى لله خالقهم فكانوا مثالاً للإنسانية بحريتهم. والحرية هي من عناصر هويتنا المارونية واللبنانية.
وبقوا ثابتين في أرضهم وحافظوا على القيم الإنجيلية والإنسانية التي أخذوها من تراث عريق. حافطوا عليها في عائلاتهم. فربّوا الأولاد والأحفاد على تلك القيم.
وإذ نحن اليوم نقطف ثمار تضحيات آبائنا وأجدادنا، علينا أن نفتخر بذلك، وعلينا أن نتحمّل المسؤولية الكبرى التي يحمّلوننا إياها لبناء المستقبل. فكما نقلوا إلينا هذا الإرث العريق، وحافظوا على إيمانهم وهويتهم وتمسّكهم بأرضهم وقيم عائلاتهم، علينا نحن أيضاً أن نربّي أولادنا على تلك الثوابت. فيكونوا هم أيضاً كما نحن شهوداً لتلك القيم وتلك الثوابت وشهوداً للمسيح على أرضهم المقدسة.
أرضنا أرض مقدسة. أرضنا هي وقف لله. اختارها الله وقفاً له وقدّسها بابنه يسوع المسيح واحتفظ بها له. ليست لنا. أرضنا هي ملك لله.لا نملك شيئاً منها؛ بل نحن وكلاء عليها. بحقّ التاريخ والإرث الذي أخذناه من آبائنا وأجدادنا وكنيستنا وشعبنا، علينا أن نحمل مسؤولية المحافظة عليها.
لا تخافوا مهما قست علينا الأيام؛ ليست أقسى من الأيام التي مرّت على آبائنا وأجدادنا وعلى كنيستنا وشعبنا. إننا في أحلى أيامنا. إننا أقوياء. وأقوى من الماضي. لا تخافوا !
نحن أقوياء بالمسيح. نحن أقوياء بإيماننا. نحن أقوياء بعائلاتنا والقيم التي تحملها عائلاتنا. نحن أقوياء بأرضنا المقدسة. نحن أقوياء بتضامننا ووحدتنا وإخلاصنا وحريتنا وكرامتنا. وبالرغم من كل ما يقال، لا زلنا نحمل هذه القيم. لسنا منقسمين ولا مشرذمين. فإذا كنا نحافظ على حريتنا وحرية كل من نعيش معه، هذا فخر لنا. ولا يعني أننا منقسمون. نحن موحدون حول رأس كنيستنا، بطريركنا السابع والسبعين، كما كنا دوماً في تاريخنا موحّدين حول كل بطاركتنا، منذ الأول يوحنا مارون الذي أسس كنيستنا في كفرحي، حتى البطريرك السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي.
نحن شعب يحافظ على تاريخه وإرثه وقيَمِه ويحمل ذاكرة تاريخية حيّة. فإذا تكاثرت علينا التحديات، نحن حريصون على المحافظة على ثوابتنا؛ ولن نحيد عنها؛ ولن نستقيل من مسؤولياتنا.
إطمئنّوا. لكن تحمّلوا معنا المسؤوليات الجسام في تربية أجيالنا الطالعة على هذا الإرث وهذه الثوابت وهذه القيم. فنلعب دورنا ساعتئذٍ في المحافظة على كنيستنا وعلى وطننا لبنان وأرضنا المقدسة.
وإذا كان الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني فَهِمَنا جيداً وقال لنا إنكم مسؤولون عن حمل دور ورسالة لبنان، الوطن الرسالة، رسالة الانفتاح والمحبة والسلام واحترام التعددية وتنوع الحضارت والثقافات، فهذا فخر لنا، ولنحافظ عليه.
مسؤوليتنا أن نعيد بناء وطننا في دوره ورسالته، ليس فقط في الشرق بل في العالم كله. ونحن قادرون على ذلك.
صلاتي معكم اليوم من أجلكم جميعاً، ومن أجل كنيستنا وشعبنا وكل اخوتنا أينما انتشروا في العالم كي نبقى كلنا ثابتين في إيماننا، أقوياء في شهادتنا للمسيح ومتمسكين بأرضنا وبدور ورسالة وطننا لبنان، وطن المحبة والسلام والكرامة والحرية، بشفاعة مريم العذراء سيدة البشارة وسيدة لبنان وكل القديسين شفعائنا. آمين.