عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الرعائية لرعية بجدرفل
لمناسبة ليلة عيد شفيعها مار بنديلايمون
الخميس 26 تموز 2012
أخي المونسنيور سمير الحايك،
إخوتي الكهنة الأجلاّء،
يا أبناء وبنات بجدرفل الأحباء.
بتأثر عميق وفرح كبير أحتفل معكم اليوم، وللمرة الأولى، بعيد شفيعكم مار بنديلايمون لأقدّمكم جميعاً حاضرين وغائبين ومنتشرين في العالم قرباناً على مذبح الرب، ذاكراً روابط المودّة والصداقة التي تربطني بكم منذ سنوات طوال: منذ أيام المدرسة مع البعض منكم، ومنذ سنتي الكهنوتية الأولى 1977-1978 في نشاطاتي مع الأخويات والطلائع والفرسان مع البعض الآخر.
بفخر واعتزاز أدخل اليوم، وأنا مطرانكم وخادمكم في المحبة، رعية بجدرفل التي أعطت للكنيسة وللوطن رجالاً كباراً عبروا إلى مجد القيامة.
كيف لا أذكر الأب بطرس الحايك البجدرفلي، رئيس ومرمّم دير مار انطونيوس قزحيا في أواسط القرن التاسع عشر، وشقيقه الخوري حنا، وأولاد شقيقه الخوري يوسف الذي خدم بجدرفل وابنته الأخت شمونه التي عايشت وخدمت القديسة رفقا، وابنه الأب بطرس في كفيفان.
والرئيس حليم الحايك المدعي العام التمييزي ورئيس محكمة جنايات بيروت.
والخورأسقف نعمة الله ابن الخوري سليمان ابي راشد الذي بنى كنيسة مار انطونيوس البادواني، والدكتور أنطوان أبي راشد الذي أدّى خدمات طبية في البترون وفي لبنان.
والمونسنيور يوسف صقر، وهو من سلالة كهنوتية، القانوني الكبير ورئيس الديوان في بكركي في زمن البطريرك الحويك والبطريرك عريضه.
والخوري يوسف غانم الوكيل البطريركي في القدس.
وهي لا تزال تعطي حتى اليوم رجالاً مشاهير في الدين والإنماء والفكر والأدب والفن.
فرحتي كبيرة أن أذكر معكم اليوم شفيع بلدتكم الذي يدعونا جميعاً إلى العودة إلى جذورنا المسيحية وإلى الثبات في إيماننا وإلى العمل على خلاص نفوسنا.
القديس بنديلايمون ولد في مدينة نيكوميديه التابعة لبطريركية انطاكية في آسيا الصغرى (تركيا اليوم).
عاش في عائلة وجيهة وغنية، مع أب وثني وأم مسيحية أرشدته، منذ صغره وبعد أن تعلّم وأصبح طبيباً ماهراً، إلى التعرّف إلى كاهن قديس بيّن له أن خدام المسيح هم أطبّاء النفوس يرشدونها إلى الله. اقتبل سرّ العماد على يده. ثم هدى والده إلى الإيمان بالمسيح. وجرت على يده آيات كبيرة. توفي والده تاركاً له ثروة. فباع أملاكه ووزعها على الفقراء، ثم راح يطبّب الناس مجاناً في أجسادهم وفي نفوسهم. كثر حسّاده فوشوا به إلى الحاكم مكسيميانوس الذي طلب إليه أن يجحد بإيمانه وإلا سيحكم عليه بالموت. وبعد عدة محاولات لتنفيذ حكم الموت فيه بالعذابات المبرّحة ورميه إلى الوحوش وكان الله ينجّيه منها بإجراء عجائب كثيرة على يده، أمر الحاكم بقطع رأسه واستشهد سنة 303.
ومن أمثولة حياة هذا الشهيد نعود إلى كلمة الله التي اختارتها الكنيسة في عيده. فنسمع القديس بولس يقول للقورنثيين: « يُضّيق علينا من كل جهة ولكننا لا نُسحق؛ نحتار في أمرنا ولكننا لا نيأس؛ نُضطهد ولكننا لا نُهمَل؛ نُنبذ ولكننا لا نهلك» (2 قور 4/7-15).
ونسمع السيد المسيح يردّد على مسامعنا: « لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد....، بل خافوا بالحريّ ممن يقدر أن يهلك النفس والجسد معاً في جهنم» (متى 10/28). إنها نعمة من الله أن تعيشوا يا أبناء بجدرفل في ظل قديسين كباراً أمثال مار بنديلايمون ومار نوهرا (الذي استشهد قبله بحوالى عشر سنوات). وإنها نعمة من الله أن تكونوا اليوم جيران القديسين في كفيفان وجربتا، وأن تعيشوا على هذه الأرض البترونية المقدسة. فلأي من الناس أعطيت هذه النعمة: أن يكون لهم في محيط بضعة كيلومترات أربعة أو خمسة أضرحة قديسين أصبحوا منارة للكنيسة الجامعة وللعالم كله ؟
إنه تراثُ قداسةٍ نُقل إلينا بفضل آباء وأمهات ساروا أمامنا على درب القداسة، وارتضوا كل التضحيات في سبيل أن نتربّى نحن على القيم المسيحية والمارونية التي هي المحبة والإخلاص والتضحية والتضامن، وأن نحافظ على إرث كنيستنا العريق، إرث القداسة والشهادة.
كل ما عشناه معاً وكل ما تربينا عليه طبع تاريخ كل بيت من بيوتنا وكل عائلة من عائلاتنا. إنها الذاكرة التاريخية التي علينا أن ننقلها بصدق وأمانة إلى أجيالنا الطالعة.
تعالوا نربّي أولادنا كما تربينا نحن على المحبة والتضحية والتضامن، على الحرية والكرامة، على الكَرَم وحسن الضيافة. تعالوا نربيهم على حبّ كنيستهم، كنيسة المسيح على اسم مارون، ولنا في كفرحي مزار لهامته المباركة في دير البطريرك الأول يوحنا مارون.
تعالوا نربّيهم على حبّ أرضهم، أرض القداسة والقديسين، وعلى التمسك بها والحفاظ عليها ورفض بيعها لأنها تمثل عنصراً من عناصر هويتنا المارونية واللبنانية.
تعالوا نعرّفهم إلى قديسيهم وشهدائهم الذين قدّسوا هذه الأرض بدمائهم وعطر بخورهم. تعالوا نخبرهم عن تاريخ الآباء والأجداد وعن صمودهم في إيمانهم وفي أرضهم بالرغم من كل الظروف الصعبة التي مرّت عليهم.
تعالوا نتعاون، أسقفاً وكهنة ورهباناً وراهبات وعلمانيين، على تحقيق الأولويات التي وضعتُها في برنامج خدمتي الأسقفية في ما بينكم. وهي:
أولاً: التجدّد الروحي المبني على كلمة الله في الكتاب المقدس وعلى الصلاة وشهادة الحياة. وكلنا مدعوون إلى هذا التجدّد كي تصبح أديارنا مراكز صلاة وفكر وإشعاع روحي، وتصبح رعايانا واحاتٍ روحيةً يصلّي فيها المؤمنون ويضج فيها النشاط الرسولي وتنمو فيها الحركات والمنظمات الرسولية والدعوات الكهنوتية والرهبانية.
ثانياً: التجدّد في الأشخاص. وسنبدأ من أنفسنا نحن الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات لنتجدّد بالعودة إلى أصالة دعوتنا ونخدم شعبنا بالتضحية والمجانية. وإني أشدّد على تنشئة الإكليريكيين كهنة المستقبل ولنا في الأبرشية أربعة عشر كانوا بينكم هذه الأيام التي سبقت العيد، وعلى تنشئة الشبيبة وعلى تثبيت العائلة في قيمها ودعائمها.
ثالثاً: التجدّد في المؤسسات. فلنعمل معاً وبمسؤولية على تجدّد رعايانا وأخوياتنا وجمعياتنا ولجان أوقافنا لتصبح شاهدة لحضور المسيح في خدمة المحبة.
هذه هي مسؤولياتنا نتحمّلها معاً في خدمة كنيستنا وفي إعادة بناء وطننا لبنان، الوطن الرسالة، ملتقى الحضارات والثقافات، ومختبر العيش الواحد المشترك بين الأديان والطوائف والشعوب. ولاخوف علينا طالما أننا ثابتون في إيماننا بالمسيح الحاضر دوماً معنا وفي عيش قيمنا. آمين.