عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الرعائية لرعية تولا
لمناسبة ليلة عيد شفيعها مار ضوميط
الاثنين في 6 آب 2012
«اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه والباقي يعطى لكم ويزاد»
أخي أبونا بطرس خادم هذه الرعية بمحبة كبيرة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات تولا
قلبي عارم بالفرح لأني بينكم اليوم وأنا مطرانكم وخادمكم في المحبة. ومع بولس الرسول أقول: « إني أشكر الرب يسوع المسيح عنكم جميعاً».
فما يربطني بتولا وأهل تولا هو أكثر من علاقة عابرة. ما يربطني بأهل تولا هو رباط محبة منذ زمن بعيد. كيف أنسى طفولتي في جربتا وكنت أنا أرافق خالي الأستاذ فيليب إلى هذه المدرسة الحبيبة وإلى تولا. وكانت تولا وما زالت وستبقى منارة في العلم والثقافة والحضارة والعيش المسيحي. وما يربطني بكم أيضاً علاقة مودة تعود بي إلى المدرسة الإكليريكية وكنت صغيراً ولي بينكم رفاق واذكرهم (بيار ابراهيم يحتاج إلى صلاة والياس عساف). ولي بينكم أحباء وأقارب.
لذا فإني أحتفل معكم اليوم في ليلة عيد شفيعكم بتأثر عميق. وكيف لا وأنا أكاد أكون ابن تولا كما جربتا ومراح الزيات. وعودتي اليوم إلى هذه الرعية الحبيبة هي عودة إلى جذوري، إلى جذوري الإنسانية والكنسية.
شفيعكم اليوم مار ضوميط الذي اختاره أجدادكم وآباؤكم شفيعاً لهم يدعونا جميعاً إلى أن نعود إلى عمق تاريخ وجذور كنيستنا وإلى جذورنا الروحانية. مار ضوميط عاش في القرن الرابع وكان وزيراً عند الملك الفارسي. كلّفه الملك أن يضطهد المسيحيين وكانوا ينمون وينمون ويكبرون في عهده. لكنه أصيب بمرض داء المفاصل فاعتبر أن هذه ربما علامة من الله أو كما كانوا يقولون ضربة من الله، فالله لا يضرب هو محبة مطلقة. علامة من الله جعلته يطلب منه أن يشفيه فشفي واعتنق الديانة المسيحية بقبوله سر المعمودية وراح يشهد للمسيح وراح يبشر به. اغتاظ منه الملك فأمره أن يعود إلى ديانته الوثنية فرفض وكرّس حياته وذاته شهادة للمسيح. وكنا في عهد الامبراطورية الرومانية وفي عهد الامبراطورية الفارسية، في أحلك أيام الاضطهادات ضد المسيحيين في القرون الأولى. ترك العالم ويذهب إلى البرية يعيش حياة نسكية متخلياً تماماً عن كل ما في هذه الدنيا، وأصبح ناسكاً. وعندما طلب منه مطرانه أن يرسمه كاهناً بعد الشماسية رفض واعتبر نفسه أنه لا يستحق ذلك؛ فبقي ناسكاً يصلي للناس ويصلي للكنيسة المضطَهَدة ولإخوته المسيحيين. إلى أن أمر الملك أن يحكم عليه بالإعدام فسدّت مغارته ومات فيها سنة 363. مار ضوميط هذا يدعونا اليوم أن نكون كلنا مثله مكرسين حياتنا للمسيح. فالإنجيل الذي سمعناه يقول فيه السيد المسيح: «لا تهتموا لهذه الدنيا بما تأكلون وما تشربون وما تلبسون. أنظروا طيور السماء أنظروا زنابق الحقل» كم هي جميلة وكم هي تمجد الله الذي يطعمها ويرفعها بدون منّة. «أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه والباقي يعطى لكم ويزاد». هكذا عاش آباؤنا وأجدادنا قبل نشأة كنيستنا المارونية، ومع يوحنا مارون نشأوا وعاشوا وشهدوا بالروحانية النسكية التي وضعها مار مارون أبونا جميعاً وأبو كنيستنا وشعبنا. الروحانية النسكية دعت آباءنا وأجدادنا وقديسينا إلى أن يتخلوا عن هذه الدنيا ويبقوا فقط مخلصين لإيمانهم بالمسيح هو وحده المخلص، هو وحده السيد والرب. قَبِلوا الاضطهادات والتضحيات الكثيرة وحافظوا على إيمانهم وحافظوا على ارث الآباء والأجداد وحافظوا على مكوّنات روحانيتنا النسكية حتى ولو لم يكونوا كهنة ورهباناً وأساقفة. آباء وأجداد وأمهات لنا عاشوا القداسة وكانوا قديسين وأعطوا قديسين. وجودكم اليوم في بلدة تولا جارة القديسين وأرض القداسة؛ بلاد البترون كلها أرض القداسة والقديسين. وجودكم هنا يحمّلكم مسؤولية ويحمّلنا كلنا أبناء منطقة البترون مسؤولية عظيمة أن نبقى دوماً محافظين على دعوة القداسة في كنيستنا وفي شعبنا وفي عائلاتنا. والعائلة، أشدّد على العائلة؛ لو لم نتربى نحن ومن كان قبلنا في عائلات مسيحية في عائلات مضحية لما كنا اليوم هنا نشهد للمسيح. عائلاتنا حافظت على إرث الآباء والأجداد وحافظت على الدعوة إلى القداسة وحافظت على التربية في القيم المسيحية والاخلاقية والإنسانية كي نبقى نحن ويبقى أولادنا وأولاد أولادنا شهوداً للمسيح في هذه الأرض بالذات أرض القداسة والقديسين. لا تخافوا ! نحن مع المسيح وبالمسيح أقوياء. ونحن في كنيستنا أبناء مارون نحن أقوياء طالما أننا ثابتون في هذا الإيمان وطالما أننا ثابتون في دعوتنا النسكية وطالما أننا ثابتون في أرضنا. وأرضنا هي وقف لله؛ لا يحق لنا أن نتخلى عنها أو أن نبذّر بها أو أن نبيعها حتى لو بأغلى الأثمان. كلها زائلة. أرض الله باقية ونحن باقون لأننا بالمسيح أبناء دعوة أبدية لا تزول. تعالوا، وهذه هي الدعوة التي يوجهها إلينا مار ضوميط ومار مارون ومار يوحنا مارون وكل آبائنا وأجدادنا في التاريخ، تعالوا نربّي أولادنا كما تربينا نحن. نربيهم على القيم التي كادت أن تفقد في مجتمعنا اليوم، وكل ذلك على اسم التقدم والتكنولوجيا والحضارة. قيمنا هي متجذرة في التاريخ وهي متجذرة في إنجيل المسيح وهي متجذرة في أرض الله المقدسة. تعالوا نربي كما تربينا. هذه دعوتي إليكم اليوم بصدق وإخلاص. تعالوا ننقل ذاكرتنا التاريخية إلى أجيالنا الطالعة. نحن لم نأتِ من البارحة. نحن كنيسة وشعب لهما تاريخ ولهما مسيرة نضال في الإيمان والمحبة والاخلاص والتضامن. هذه هي قيمنا المارونية. تعالوا ننقل إليهم بصدق وأمانة كل ما نُقل إلينا من تاريخنا العريق وحضارتنا وإرثنا.
إني اليوم بفرح كبير وبتأثر عميق أقدم قداسي على نية أبناء وبنات تولا الحبيبة على نيتكم انتم الحاضرين وعلى نية الغائبين الذين أعرف أنهم لم يستطيعوا أن يكونوا معنا وعلى نية أبناء تولا المنتشرين في العالم وهم حاملو تراثنا وقد تعرفت إليهم في جولاتي العديدة في أميركا وليس فقط في يونفستون أوهايو وأعرف كم هم يحبون بلدتهم تولا وكم هم يحبون كنيستهم مار ضوميط وكم هم يريدون كل يوم أن يبقوا مرتبطين بتاريخهم وتاريخ بلدتهم وتاريخ عائلاتهم، وكم يتمنون أن يمدوا يد المساعدة إلى بلدتهم تولا وإلى أبنائهم وإخوتهم كي تبقى تولا شعلة ومنارة في عيش الإيمان وفي الانفتاح على العالم في الثقافة والعلم وفي تبوء الدور الكبير في الكنيسة وفي الوطن. أذكر فقط الخوري بطرس التولاوي الذي حمل اسم تولا إلى كل العالم. كان لاهوتياً وفيلسوفاً وكان استاذاً في مدرسة حلب الشهيرة؛ وكم تتلمذ على يده أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين. هو منارة يبقى للتاريخ ولكن أيضاً يبقى للمستقبل. لا تخافوا ! أنتم أقوياء ونحن أقوياء بكل ما نقل إلينا.
صلاتي من أجل كل أبناء وبنات تولا الذين سبقونا إلى دار الحياة إلى مجد القيامة مع السيد المسيح من كهنة ورهبان وراهبات وآباء وأمهات. هم اليوم يشفعون بنا من حيث هم ويطلبون إلينا أن نبقى متضامنين موحدين؛ أن نبقى كلنا على انفتاحنا عائشين لنحمل رسالة وطننا لبنان، رسالة المحبة والانفتاح، رسالة لقاء الحضارات والثقافات، رسالة الانتشار، شهادةً للمسيح لم تتوان يوماً أن تكون محبة وانفتاحاً. صلاتي اليوم وقداسي أن نكون كلنا أبناء وبنات تولا أبناء وبنات أبرشية البترون حاملين دعوة القداسة وناقليها إلى أبنائها بالتزامنا اليومي أينما كنا. ستكون تولا محافظة وأمينة لرسالتها في التاريخ ولدعوتها في الكنيسة ولدورها في الوطن أمينة ومنفتحة على مستقبل زاهر. آمين.