عظة المطران خيرالله في قداس البحر في البترون أول تموز 2012

عظة المطران منير خيرالله
في قداس البحر- البترون
الأحد أول تموز 2012
 
إبتعدوا إلى العمق، وتجدّدوا بالروح،
واذهبوا إلى العالم رسل محبة وسلام !
 
        بتأثر عميق أقف معكم اليوم على شاطئ البترون، كما وقف الرسل يوماً على شاطئ بحيرة طبريّا، وكما وقف السنة الماضية في مثل هذا اليوم بطريرك الشركة والمحبة مار بشاره بطرس الراعي، لأحتفل معكم بقداس البحر وقد أصبحت مطرانكم وخادمكم في المحبة. وكنت قد احتفلت معكم لمدة عشرين سنة، وأنا خادم رعيتكم وحامل هموم كبارها وشبابها وصغارها، بقداس البحر السنوي متابعاً تقليداً قديماً في الزمن، لنذكر إخوتنا وأبناءنا الذين قضوا في البحر، وكل بحّارتنا والغطّاسين الذين ارتضوا أن يعيشوا مغامرة البحر ويتحدّوا العواصف ويخاطروا بحياتهم في سبيل عيش حرٍّ وكريم. تماماً كما ارتضى آباؤنا وأجدادنا أن يغامروا بالعيش في جبال لبنان الصخرية والوعرة ويضربوا بمعاولهم أرضها ليحوّلوها إلى جنّات تعطيهم الغلاّت الوافرة وتؤمّن لهم العيش الحرّ والكريم.
وقفتنا اليوم هي عودة إلى الجذور، إلى جذور روحانيتنا النسكية التي يدعونا فيها الرب يسوع إلى التخلّي عن كل ما يشدّنا إلى هذه الدنيا ومغرياتها لننطلق معه في مغامرة الحب والعطاء وبذل الذات. أن نترك كل ما يشدّنا إلى الأرض اليابسة والفانية للغوص في عمق البحر أو للصعود إلى الجبال والوديان حيث مغاور النساك وأديار القديسين وكنائس الرعايا التي تجمع شعب الله في الوحدة والتضامن والمحبة.
وفي العودة إلى الجذور، نلبّي الدعوة إلى التجدّد الروحي الذي وضعتُه في الدرجة الأولى من سلّم أولوياتي الراعوية في خدمتي الأسقفية؛ التجدّد الروحي المبنيّ على كلمة الله في الكتاب المقدس والصلاة وشهادة الحياة.
فلنسمع إذاً اليوم الرب يسوع يقول لنا من جديد، كما قال لبطرس:“ إبتعدوا إلى العمق وألقوا شباككم للصيد”، صيد البشر. (لوقا 5 /1-11). 
فبطرس ورفاقه هم الرسل الذين اختارهم يسوع من بين البحّارة لأنهم رجال يحبّون المغامرة ويجيدونها، ولأنهم يقبلون بالتخلّي عن كل شيء في سبيل خوضها. فقال بطرس، بعفويّته، ليسوع:“ لقد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً. ولكن بناءً على كلمتك سألقي الشبكة”. إنهم رجال مغامرة ورجال ثقة. يغامرون ويثقون بالذي يرسلهم.
وفي عودتنا إلى أصالة دعوتنا لكي نقوم بالتجدّد الروحي المطلوب وننطلق في الرسالة التي يحمّلنا إياها السيد المسيح اليوم، لنا عبرة نتخذها:
فنحن مدعوون أولاً إلى أن نغوص إلى العمق، وعمق البحر وعمق الإنسانية وعمق سرّ الله حيث نلتقي بالله الآب الذي أحبّ البشر حباً مطلقاً وافتداهم بابنه الحبيب. فالعمق هو نقيض الشاطئ الفايش والسطحية. والجبل هو نقيض السهل.
نحن مدعوون ثانياً إلى أن نتخلّى عن مغريات هذه الدنيا ونتحرّر من كل ما يكبّلنا في مكاننا وفي أنانيتنا ومصالحنا الشخصية لنكتشف من جديد القيم التي تميّزنا، نحن ورثة آباء وأجداد قديسين وورثة أرض البترون المقدسة، ومنها التضامن والمحبة والتضحية والحرية والإخلاص في الخدمة.
ونحن مدعوون ثالثاً إلى أن نتحرّر بالروح القدس من كل خوف ويأس لنلقي الشبكة بثقة تامة في عمق مجتمعنا وعالمنا؛ فنصبح أنبياء الحق ورسل المحبة والسلام في عالمٍ تحاول فيه الذئاب الخاطفة أن تأكل الحملان وتبدّد من يرعاها.
يا شبابنا وصبايانا، يا مستقبل الكنيسة والوطن !
نحن نسمعكم تقولون لنا: كيف نعيش الرجاء وقد تعبنا السنوات الطوال ويئسنا من المغامرة والنضال والمطالبة بحقوقنا في العيش بكرامة وحرية واستقرار ؟ كيف نعيش الرجاء وقد وصلنا إلى أفق مسدود بعد أن سئمنا الانتظار من قيام دولة القانون؟
ضمانتنا الوحيدة هي المسيح الذي قال لرسله ويقول لنا:“ بدوني لا تستطيعون شيئاً... ستعانون الشدّة والاضطهاد في العالم، لكن ثقوا، لا تخافوا، أنا غلبت العالم”. إذهبوا إلى إخوتكم متجدّدين بالروح واحملوا إليهم كلمة الخلاص وسلام المسيح.
نقول لكم اليوم، ونحن على أبواب زيارة قداسة البابا إلى لبنان، مع آباء مجمعنا المقدس الذي عقدناه في بكركي منذ أسبوعين:“ لا تخافوا ! المسيح معكم، وروحه القدوس يعضدكم. تمسّكوا بتراث كنيستكم السرياني الإنطاكي، وكونوا شهوداً لما يحمله من روحانية وقيم”. ومن خلالكم نقول لإخوتنا في الشرق الأوسط، مسيحيين ومسلمين:“ تعالوا نلتزم معاً ببناء أوطاننا على الأخلاق النابعة من إيماننا بالله، ونجعل منها فسحة حقيقية لحوار الأديان والحضارات والعيش الواحد المشترك” (البيان الختامي).
ومن بحر البترون نتطلّع إلى بحر أنطاكيه حيث أسّس بطرس كرسيّه قبل أن ينتقل إلى روما، وحيث قام بطريركنا، مار بشاره بطرس الراعي، بزيارة راعوية في أرض الجذور وفي عودة إلى التراث وأطلق إلتزامات كنيستنا:
“1- بالعيش بمقتضيات الإيمان المسيحي وفقاً لروحانية مار مارون وتلاميذه.
2- بالعمل مع الكنائس الأنطاكية الشقيقة على التزام تراثنا الأنطاكي اللاهوتي والروحي والكنسي المشترك، وعلى السعي إلى بناء وحدة المسيحيين.
3- بالتزام تحقيق الربيع العربي مع اخواننا المسلمين، ربيع قائم على القيم المسيحية والإسلامية الروحية والإنسانية والأخلاقية وعلى احترام كرامة الشخص البشري وحقوقه الأساسية وعلى تعزيز الحريات العامة وفي طليعتها حرية العبادة والمعتقد والتفكير والرأي.
4- العيش بالشركة والمحبة مع جميع الناس”.