عظة المطران منير خيرالله في قداس الأحد الجديد في جاج 15-4-2012

عظة المطران منير خيرالله
في قداس الشكر في مار عبدا- جاج
الأحد 15 نيسان 2012، الأحد الجديد
 
أخي صاحب السيادة المطران ميشال عون الغائب قسراً والحاضر معنا بشخص نائبه العام المونسنيور جوزف معوض.
 
        بتأثر عميق أحتفل معكم اليوم، يا إخوتي أبناء جاج الأحباء، بقداس الشكر لله على نعمة الخدمة الأسقفية التي منحني إياها لأخدم شعبه في المحبة خليفةً للرسل في ابرشية البترون، كما احتفلت معكم منذ خمس وثلاثين سنة بقداس الشكر على نعمة الخدمة الكهنوتية.
ولي الفخر أن يكون قداسي الأسقفي هذا في كنيسة مار عبدا على أرض أجدادي، وعلى خطى أساقفة وبطريركَيْن عظام قدّمتهم بلدتي جاج إلى الكنيسة المارونية، وعلى أقدام أرز جاج الخالد الذي منه بنى سليمان الملك هيكلاً لله في أورشليم. وأفتخر بأن أعود إلى أصولي. فمن لا أصول له لا تاريخ له، ومن لا تاريخ له لا مستقبل له.
نزل أجدادي من جاج في أوائل القرن العشرين حاملين معهم تراث بلدة جاج وروحانية الآباء القديسين الذين تمسّكوا بإيمانهم وشهدوا للمسيح القائم من الموت بصمودهم في أرضهم المقدسة وعيشهم للقيم المسيحية والإنسانية. نزلوا من جاج، من قمم جبال الأرز، إلى سواحل بلاد البترون وتمركزوا في بلدة مراح الزيات جارة القديسين على شفا وادي جربتا حيث كانت الراهبة رفقا، الآتية من دير مار سمعان أيطو، قد بدأت مسيرتها نحو القداسة. وأسسوا هناك العائلات، وربّوا الأولاد على تراث الآباء والأجداد.
وأراد الله أن يتزوج والدي طانيوس من والدتي كاتبة ابنة جربتا من العائلة المعادية، فكتبت له ومعه تاريخ عائلة اختارها الله بمحبته اللامتناهية لتكون شاهدة وشهيدة للمحبة؛ وذلك لأن استشهادهما ليلة عيد الصليب سنة 1958، وكانا بعمر الثلاثة والثلاثين سنة، كان علامةً لمحبة الله الآب الذي من فيض حبه للبشر بذل إبنه الوحيد يسوع المسيح الذي مات على الصليب حاملاً خطايا العالم وقام في اليوم الثالث مانحاً الحياة الجديدة لكل من يؤمن به. تماماً كما حبة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت قبل أن تحيا من جديد وتعطي ثماراً كثيرة.
فجبيل والبترون كانتا، منذ بداية المسيحية وبداية المارونية ومع يوحنا مارون مطران البترون ثم البطريرك الأول، بلاداً واحدة وأبرشية واحدة. وبقيتا كذلك قبل المجمع اللبناني وبعده وحتى سنة 1990.
والعائلات المتقاربة، والقديسون المعلنون شربل ورفقا ونعمة الله والأخ اسطفان وغيرهم الكثيرون غير المعلنين، ومراكز القداسة في إيليج وعنايا وكفيفان وجربتا، ليسوا سوى برهانٍ ساطع على وحدة بلاد جبيل والبترون.
وإذا كان الله اراد أن تكون مناسبة قداس اليوم هي الأحد الجديد، أحد إيمان توما، فإنها علامة جديدة من علامات الأزمنة وعلينا أن نحسن قراءتها لنفهم إرادة الله في حياتنا ونعمل على تتميمها.
إنه الأحد الذي يعلن فيه توما إيمانه بالرب يسوع القائم من الموت. هو الذي كان غائباً عندما ظهر يسوع للمرة الأولى للرسل. فأخبره الرسل أن يسوع قام من الموت وظهر لهم. لكن خبرهم لم يقنعْه؛ ربما لأنهم هم أنفُسهم كانوا غير مقتنعين وكانوا لا يزالون تحت عقدة الخوف. فشهادتهم لم تكن مقنعة. وعندما ظهر يسوع بعد ثمانية أيام، قال لتوما: «يا توما هات إصبعك وضعه في جنبي؛ وكن مؤمناً لا غير مؤمن !». فاهتزّ كيان توما أمام هذه الدعوة، واقترب من يسوع وسجد له وصاح قائلاً: «ربي وإلهي !»
فقال له يسوع: « لأنك رأيتني آمنت ؟ فطوبى للذين لم يروني وآمنوا». (يوحنا 20/26-29).
إني أعتبر أن أجدادنا عاشوا على قمم هذه الجبال التي بشّرها تلاميذ مار مارون منذ القرن الخامس فاعتنقوا الإيمان المسيحي. وكانوا شهوداً لقيامة الرب يسوع ولحضوره الدائم في كنيسته دون أن يروه مادّياً. وإيمانهم هذا وصل إلينا صافياً لأن قناعتهم به كانت كبيرة وشهادتهم له كانت صادقة لدرجة أنهم رضوا بالاستشهاد في سبيله.
أحبائي يا أبناء جاج، الحاضرين هنا وفي كل المناطق اللبنانية،لا تيأسوا ولاتحزنوا إذا كان أخوة لكم غادروكم لينتشروا في بلدان العالم الواسع. فإنهم يتمدّدون وينتشرون في العالم تماماً كما أغصان الأرز تمتدّ أفقياً وتتوسع ولكنها تبقى متصلةً بالجذع والجذور لتتغذى منها ومرتبطةً بالأصول لتأخذ منها أصالتها.
لذا فإني أدعوكم للعودة إلى جذورنا الروحانية الإنطاكية التي ورثناها عن آباء وأجداد وبطاركة وأساقفة ورهبان قديسين.
إنها الروحانية النسكية التي امتاز فيها آباؤنا على مدى خمسة عشر قرناً بالعيش في العراء على قمم جبال جبيل والبترون والجبّة، أو في قعر وديان قنوبين وتنورين وجربتا وكفيفان ونهر ابراهيم، والتي جعلتهم، كالمسيح على الصليب، معلّقين بين الأرض والسماء؛ وبالوقوف المستمرّ الذي سمح لهم بأن لا يرتخوا فيرضخوا فيُستعبدوا، وبالصلاة والصوم والسهر والتقشف مترفّعين عن كل مغريات الدنيا؛ وبالعمل في الأرض الصخرية الوعرة التي حوّلوها إلى جنّات تعطيهم الغلاّت الوافرة. وذلك بفضل القيم المسيحية التي مارسوها في عيشهم، كالمحبة والتضامن والكرامة والحرية، بذهنية الخدمة المجانية والتضحية والعطاء.
يا أبناء الأرز الخالد، يا أبناء هذا الجرد الأبيّ، كان أجدادنا يزرعون لنا أشجار التفاح والتين والكرمة ويضحّون بسنوات في السهر والتعب والعناية قبل أن يقطف أولادهم المواسم الوفيرة. فيما نحن اليوم نواجه تحديات مجتمع الاستهلاك وذهنية الربح السريع ومواسم خيم النيلون حيث كل شيء مستباح للتجارة.
فلنعُد إلى قيمنا ولنتمسّك بأرضنا. فأرضنا هي أرض مقدسة اقتطعها الله وقفاً له ! وفَهِمَ أجدادنا ذلك، فحافظوا عليها حفاظهم على عائلاتهم وتعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم، واعتبروها دوماً وقفاً لله. فكانت عنصراً هاماً من عناصر هوّيتهم وسبب خصوصيتهم ووجودهم الحر في هذا الشرق. فلا يحقّ لنا أن نفرّط بها أو أن نتركها للبور أو أن نبيعها حتى ولو بأغلى الأثمان.
تعالوا إذاً نشبك الأيدي، نحن أبناء جبيل والبترون ونبقي على بلادنا موحّدة كما نتمنّى المطران ميشال وأنا، ونتعاون في تحمّل مسؤولياتنا الكنسية والإجتماعية والسياسية والوطنية من أجل بناء كنيسة مارونية متجدّدة أبداً في الشهادة للمسيح في الحق والحرية والكرامة وفي خدمة الإنسان، كل إنسان، في لبنان وفي بلدان المشرق وبلدان الإنتشار.
إنها رسالة كنيستنا ورسالة وطننا لبنان، بلد العيش الواحد ووطن العيش المشترك في الاحترام المتبادل ولقاء الحضارات والثقافات والديانات.
فلنطلب ذلك بشفاعة العذراء مريم سيدة لبنان ورفيقة بطاركتنا في حلّهم وترحالهم، ومار مارون ومار يوحنا مارون ومار عبدا والقديسين شربل ونعمة الله ورفقا واسطفان آمين.