عظة المطران خيرالله في قداس مار يوحنا مارون 4-3-2012

عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار يوحنا مارون
كفرحي في 4 آذار 2012
 
 
صاحب السيادة، أبي الروحي ومدبّري ومرافقي، المطران بولس آميل سعاده السامي الإحترام،
أصحاب السيادة،
ومن خلالكم أوجه تحية خاصة إلى صاحب الغبطة مار بشاره بطرس الراعي بطريرك إنطاكية وسائر المشرق وخليفة يوحنا مارون السابع والسبعون الكلي الطوبى، وإلى صاحب النيافة مار نصرالله بطرس صفير الكلي الطوبى،
أصحاب المعالي الأستاذ جبران باسيل والشيخ بطرس حرب والدكتور طارق متري،
أصحاب السعادة النواب الأستاذ انطوان زهرا والأستاذ سامر سعاده والأستاذ سايد عقل،
سعادة قائمقام البترون الإستاذ روجيه طوبي
حضرة رئيس إتحاد بلديات البترون الأستاذ طنوس الفغالي ورؤساء البلديات،
حضرة رئيس رابطة مخاتير البترون السيد جوزف أبي فاضل والمخاتير،
أصحاب المقامات السياسية والقضائية والعسكرية والأمنية والثقافية والتربوية والإجتماعية.
الرئيسة العامة، أخواتي الراهبات وإخوتي الرهبان والكهنة،
أيها الأخوات والإخوة الأحباء.
 
 
 
        نبارك إسمك يا الله، أيها الآب والإبن والروح القدس، نحن أبناء مارون، مَنْ في السماء ومَنْ على الأرض، لأنك أعطيتنا مارون أباً ناسكاً قديساً نحمل إسمه اليوم على وسع الكون، وأعطيتنا يوحنا مارون راعياً بطريركاً جمع أبناء مارون في روحانية الأب المؤسس، وأسس لهم كنيسة بطريركية في قلب أنطاكيه.
ونؤدي لك المجد والشكران لأنك أهّلتنا لأن نجتمع اليوم ونعيّد بالفرح عيد شفيعنا مار يوحنا مارون. هذا البطريرك الأول الذي جاء من دير مار مارون على ضفاف العاصي ليكون أسقفاً على البترون، ويرعى شعب مارون الذي كان قد انتشر في جبل لبنان بين جبيل والبترون والجبّة بفضل تلاميذ مار مارون الذين جاؤوه رسلاً ومبشرين.
وفي ظروف تاريخية خاصة عاشتها المنطقة وكنيسة أنطاكيه، حمله شعب مارون ونادوا به بطريركاً على أنطاكيه في أواخر القرن السابع- أوائل القرن الثامن. فجعل من كفرحي مقراً لبطريركيته ناقلاً إليها هامة مار مارون. وراح ينظم كنيسته البطريركية مرتكزاً على روحانية مار مارون وتلاميذه في مقوماتها النسكية والرسولية.
وتمتاز الحياة النسكية في حياة مارون وتلاميذه وشعبه بالعيش في العراء وعلى قمم الجبال للإقتراب من الله والإقامة بين الأرض والسماء؛ بالوقوف المستمرّ علامة الإستعداد الدائم؛ بالصلاة المتواصلة والسهر والصمت العميق؛ بالتقشف وقهر الذات؛ وبالعمل في الأرض والتعب عليها من أجل العيش منها بكرامة ورأس مرفوع.
أما الحياة الرسولية فتمتاز بالهجرة من أجل الرسالة وحمل بشارة الخلاص؛ ببناء الكنائس والأديرة لنشر التعاليم المسيحية والعِلم والحضارة؛ وبقداسة السيرة؛ ما جعل الناس تتبعهم وتتتلمذ على يدهم وتتبنّى قِيَمهم. فكانت هذه الروحانية ترتكز على الصليب في بُعدَيْه العمودي والأفقي. البُعدُ العمودي هو خط النسك والعبادة والصلاة، خط العلاقة مع الله، خط يربط الأرض بالسماء، تماماً كما كان المسيح المعلّق على الصليب وسيطاً بين الأرض والسماء. والبُعد الأفقي هو خط التبشير والكرازة، خط الرسالة، خط يربط أهل الأرض بعضهم ببعض. إنها روحانية الصليب، صليبِ المسيح، الذي أصبح رمزاً للقيامة.
هكذا عاش الموارنة بعد مارون وتلاميذه، ومع يوحنا مارون وبعدَه مع خلفائه البطاركة، خمسة عشر قرناً وكانوا «جماعة الصلبوت في كنيسة الناسوت»، كما يقول العلاّمة الخوري يواكيم مبارك، متّبعين مقومات الروحانية التي تركها لهم الآباء المؤسسون.
فعاشوا في العراء على قمم جبال لبنان أو في قعر الوديان بين وادي قنوبين ووادي تنورين ووادي نهر إبراهيم.
عاشوا دوماً واقفين مستعدين لكل طارئ ولملاقاة ربهم بالصلاة والصوم والسهر والصمت. عملوا في الأرض الصخرية الوعرة وحوّلوها إلى جنّاتٍ تعطيهم الغلاّت الوافرة، وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم.
عاشوا لا يهابون الإضطهادات. فكلما كانت تشتدّ عليهم المحن، كانوا يتوكأون على عصيهم الخشبية كي لا يرضخوا فيرتخوا فيُستعبدوا !
 
 
وفي ما نحن نقف اليوم هنا لنعيّد شفيعنا وبطريركنا الأول، نشعر بالرهبة وبثقل الإرث الكبير الذي حَمَّلَنا إياه الآباء القديسون.
إنها وَقفة تهزّ كياننا وتدعونا إلى العودة إلى الجذور الروحانية للتأمل فيها ومحاسبة النفس واتخاذ العبر.
إنها وقفة تحفّزنا على توعية كنسية ووطنية تجعلنا نعود، نحن أبناء مارون، لا إلى أنفسنا ومصالحنا الشخصية بل إلى الدعوة التي دعانا إليها السيد المسيح بواسطة آبائنا مارون ويوحنا مارون وكل بطاركتنا من بعده في روحانية أنطاكيّة نسكيّة أظهرت قدرتها على حمل شعب مارون على الإستمرار في إيمانه وقِيَمه في وجه كل التحديات.
ونشعر أننا مدعوون إلى التساؤل: ما هو دورنا اليوم في مواجهة التحديات الحاضرة التي تعاني منها كنيستنا المارونية، ومعها وطننا لبنان، من التراجع الجغرافي والتدني الثقافي والانحطاط الأخلاقي والتفكك العائلي والهجرة المتزايدة ؟
-       علينا أولاً أن نعود إلى مقوّمات روحانيتنا النسكية التي تتجلّى في علاقة متسامية مع الله وعلاقة محبة مع إخوتنا البشر. فنتبنّى موقف الحق الذي لا يساوم ولا يراوغ لأنه موقف السيد المسيح.
-       علينا ثانياً أن نعود إلى روحانية الأرض. والأرض هي عنصر هام من عناصر هوّيتنا، وكانت سبب خصوصيتنا المارونية ووجودنا الحر. أرضنا هي وقف لله، فلا يحقّ لنا أن نفرّط بها أو أن نتركها للبور أو أن نبيعها حتى ولو بأغلى الأثمان.
-       علينا ثالثاً أن نعود إلى الإنفتاح والحرية والعيش الواحد؛ أي إلى إحياء دعوة لبنان التاريخية. أن نعمل من جديد على إعادة بناء لبنان رسالةً للعالم ووطناً للعيش المشترك في الاحترام المتبادل ولقاءً للحضارات والثقافات والديانات.
 
أما تطلعاتنا المستقبلية التي رسمها المجمع البطريركي الماروني، وتبنّاها أبونا غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى، وتبنيتُها أنا في مشروع أسقفيتي، فتتلخص بالثوابت الثلاثة التالية:
-       أولاً: التمسك بالبطريركية وبشخص البطريرك الضامنَيْن لوحدة الموارنة. فكنيستنا هي كنيسة بطريركية، وعلينا أن نعاون السيد البطريرك في جمع كل أبنائه حول شخصه وفي مأسسة البطريركية لتكون كنيسة شاهدة للمسيح في الحق والحرية وفي خدمة كل الموارنة المقيمين في لبنان وفي النطاق البطريركي والمنتشرين في بلدان العالم الواسع.
-       ثانياً: ترسيخ الهوية المارونية، سريانية أنطاكية بكل أبعادها اللاهوتية والنسكية والليتورجية والتراثية والفكرية. لكن النسكية فيها هي حجر الأساس في البنية المارونية ككل، وهي قاعدة الموارنة كافة وقِوامُهم من البطريرك إلى أوضع المؤمنين.
-       ثالثاً: التشبث بلبنان الأرض، و«الوطن الرسالة»، ومركز البطريركية، وموقع الينابيع الروحانية ومراكز القديسين، وأرضِ الشهادة والصمود في حرية أبناء الله، وحاملِ دور الريادة في الشرق والغرب.
 
إننا نتطلّع معاً إلى بناء كنيسة مارونية متجدّدة تواكب تطورات القرن الحادي والعشرين وتكون شاهدةً للحقّ والحرية والكرامة، باسم المسيح مخلّص العالم، وتركّز على احترام التعددية وحقوق الإنسان وحريات الشعوب في تقرير مصيرها.
        وفي مسيرة التجدّد هذه تحملون أنتم العلمانيون – سياسيون وتربويون واقتصاديون وقضاة وأمنيون وإعلاميون – وبخاصة أنتم الشباب الذين تمثلون مستقبل الكنيسة والوطن – المسؤولية الكبرى. ونحن واثقون من أننا معاً سننجح بشفاعة العذراء مريم سيدة لبنان، ومار مارون ومار يوحنا مارون وكل بطاركتنا وأساقفتنا القديسين، ومنهم البطريرك العظيم الياس الحويك ابن منطقتنا الذي نرجو أن يعلن مكرّماً وطوباوياً في وقت قريب.  
Photo Gallery