17-1-2013 تنورين التحتا في عيد مار انطونيوس الكبير

عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار أنطونيوس الكبير
الخميس 17/1/2013، تنورين التحتا
 
«إذهب وبعْ كل ما تملك وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال فاتبعني»
     (متى 19/21 ومرقس 10/20)
 
حضرة الخوري الياس (صعب) خادم هذه الرعية الحبيبة،
حضرة الآباء بيار (صعب) وجورج (طربيه) وأنطون (نهرا)،
حضرة رئيس البلدية (الدكتور منير طربيه)
أحبائي جميعاً أبناء وبنات تنورين وهذه الرعية وكل الجوار.
 
        فرحتي كبيرة جداً أن أعيّد معكم اليوم، وللمرة الأولى مطراناً لأبرشيتكم، عيد شفيع رعيتكم مار أنطونيوس الكبير. واليوم هو ذكرى السنة الأولى لإعلان أسقفيتي من قبل قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر.
في السنة الماضية في مثل هذا اليوم صلّيت من أجل أبرشيتي. واليوم أصلّي من جديد من أجل أبرشيتي، أبرشية القداسة والقديسين التي سلّمني رعايتها السيد المسيح لكي أرعاها بالمحبة ولكي لا يهلك أحد منها.
أحتفل معكم بعيد مار أنطونيوس الكبير الذي اتخذه آباؤكم وأجدادكم شفيعاً لهم.
مار أنطونيوس، أبو الرهبان، ولد في صعيد مصر سنة 251 في عائلة غنيّة ومن والدين تقيّين. فتربّى قريباً من الله ومن كنيسة المسيح. وكان دوماً يسمع تعاليم المسيح في الإنجيل. فسمع يوماً ما قاله يسوع في حواره مع الشاب الغني الذي كان يسعى إلى أن يربح الحياة الأبدية وأن يكون كاملاً. قال له يسوع: « إذا أردت أن تكون كاملاً فاذهب وبع ما تملك وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، وتعال فاتبعني». وهكذا كان بالنسبة إلى أنطونيوس الشاب. ترك كل شيء في هذه الدنيا، فمضى وباع ما يملك تاركاً لشقيقته نصيبها، ووزع ما خصّه على الكنائس والفقراء، واعتزل الدنيا. وأخذ يزور النساك صارفاً أكثر أوقاته في الصلاة والتأمل ومطالعة الكتاب المقدس. ثم انفرد في الصحراء، وراح الشيطان يصارعه، لمدة عشرين سنة، ويحاول أن ينتزع منه دعوته إلى الكمال، هو الذي أراد أن يكون كاملاً. لكنه انتصر على كل التجارب وتشبّه بالسيد المسيح الذي بعد اعتماده في نهر الأردن، وقبل أن يبدأ رسالته التبشيرية والخلاصية بين البشر، قاده الروح إلى البرّية وجرّبه أبليس؛ فانتصر عليه. وراح يبشر بملكوت الله. وارتضى أن يحمل إنسانيتنا على هذه الأرض التي نعيش عليها، وأن يحمل خطايانا حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، لكي بقيامته يعطينا الحياة الجديدة.
هكذا فعل أنطونيوس متشبّهاً بالمسيح وبالرسل والمسيحيين الأولين. وتذكّر كلام بطرس ليسوع بعد حواره مع الشاب الغني: « ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فما عساه يكون لنا ؟» (مرقس 10/28). قال له يسوع: « من ترك من أجلي ومن أجل الملكوت أباً أو أماً أو إخوة أو أخوات أو أرضاً، ينال أضعافاً على هذه الأرض مع الاضطهادات، وينال كنزاً كبيراً في الحياة الأبدية في ملكوت الآب السماوي». ففعل أنطونيوس كما فعل بطرس ورفاقه الرسل، وترك كل شيء في هذه الدنيا وزهد فيها، وراح يكرّس حياته في الصلاة والتأمل والتعمق في كلمة الله في الكتاب المقدس.
وبعد عشرين سنة من حياة في البرّية، قصده الكثير من المؤمنين وراحوا يطلبون منه أن يكونوا في عداد تلاميذه. فاستجاب طلبهم ونزل معهم إلى ضفاف النيل وأنشأ لهم أديرة عديدة. وكثر عدد الرهبان فيها. وراح يزورهم ويثبتهم في دعوتهم. فكان أن صحّ فيه أنه أبو الرهبان ومؤسس الحياة الرهبانية.
واليوم جميع إخوتنا الرهبان والراهبات يعيّدون لشفيعهم مار أنطونيوس ويطلبون من الله أن يثبتهم في دعوتهم إلى الكمال فيكونوا مثالاً لنا في عيش حياتهم الرهبانية وفي تكرّسهم لله في الطاعة والعفة والفقر.
ونحن اليوم في هذه الرعية، وفي تنورين، نستعيد ما دعانا إليه السيد المسيح وما يدعونا إليه شفيعنا مار أنطونيوس.
كلنا مدعوون، لا أن نكون رهباناً، لكن إلى أن نلبّي دعوة المسيح لنا كي نتبعه في حمل صليبه وكي نكون كاملين ونستحق أن نكون أبناء أبينا الذي في السماوات.
كلنا مدعوون أن نثبت في إيماننا ورجائنا به متحدّين كل التجارب ومغريات عالم اليوم. فنتشدّد بالرب وبقدرة قوته، كما يقول لنا القديس بولس: « لأن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع الرئاسات والسلاطين وولاة هذا العالم، عالم الظلام» (أفسس 6/10-18)، وعالم الخطيئة.
هذه هي الدعوة الموجهة إلينا جميعاً، وإليكم يا أبناء وبنات تنورين، أنتم الذين تعيشون في وادي تنورين بين المحابس والأديار كما في وادي قنوبين. أنتم مدعوون إلى القداسة. حافظوا على دعوتكم التي ثبت فيها آباؤكم وأجدادكم وكانوا قديسين إذ قبلوا أن يتجرّدوا عن مغريات هذه الدينا. ووجودكم في هذه الوديان وهذه الجبال يقرّبكم من الله ويجعلكم تلبّون دعوة الله إلى القداسة. أنتم أيضاً تستطيعون أن تكونوا قديسين. وصلاة كل من سبقكم وسبقنا من رهبان وراهبات وآباء وأمهات تشفع بكم اليوم وكل يوم.
أثبتوا في دعوتكم هذه. أثبتوا في إيمانكم، واثبتوا في أرضكم المقدسة، ولا تخافوا من شيء ولا على شيء. فكل ملذات هذه الدنيا وولاتها وسلاطينها لا يستطيعون أن ينتصروا عليكم. أنتم أقوياء بالمسيح وبشفيعكم مار أنطونيوس وبجميع قديسيكم الذين سبقوكم. ربّوا أولادكم والأجيال الصاعدة على القيم التي تربيتم عليها والتي كلّفت آباءنا وأجدادنا التضحيات الكبرى. أنتم أيضاً تستطيعون أن تضحّوا في سبيل أن يبقى أولادنا ثابتين في هذه الدعوة إلى القداسة، وثابتين في إيمانهم، وثابتين في رسالة كنيستهم، كنيسة المسيح على أرض البترون وعلى أرض لبنان المقدسة.
صلاتي اليوم في هذا القداس أقدّمها من أجلكم جميعاً، يا أبناء هذه الرعية وبناتها وأبناء وبنات تنورين وكل منطقتنا، الحاضرين معنا والغائبين والمنتشرين في العالم وهم لا زالوا حاملين تراث الآباء والأجداد. صلاتي أن يبارككم الله، وأن يحفظكم كي تلبّوا الدعوة إلى القداسة وكي تكونوا شهوداً للمسيح في حياة التجرّد عن هذا العالم إذ تسعون إلى الكمال في ملكوت الآب السماوي. آمين.