عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار اسطفان
كنيسة مار اسطفان- تحوم، 2/8/2021
« يا ربّ، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة » (أعمال 7/60)
قدس المونسنيور بيار طانيوس النائب العام،
قدس المونسنيور سمير الحايك خادم هذه الرعية لسبع وأربعين سنة،
الخوري شربل خشان القيّم الأبرشي وخادم هذه الرعية لست سنوات،
الخوري سامي نعمه الذي يحمل المشعل اليوم لخدمة هذه الرعية بنعمة الرب وشفاعة الشهيد الأول في الكنيسة مار اسطفان.
أحبائي جميعًا.
فرحتي كبيرة أن أعيّد معكم شفيعكم في الثاني من آب، بالرغم من الظروف الاستثنائية والكارثية التي تمرّ علينا في لبنان. وفرحتي أكبر أن نجدّد معًا، بشفاعة مار اسطفان، إيماننا بحضور الرب، ونجدّد التزامنا بالشهادة التي علينا أن نؤديها اليوم وكل يوم لإيماننا بالمسيح، حتى ولو دفعنا غاليًا ثمن هذه الشهادة.
ما يقوّينا ويشجعنا اليوم هو أن ننظر إلى التاريخ، تاريخ بلدتكم تحوم.
أجدادكم أتوا إلى هنا من كفركده- فغال في أواسط القرن الثامن عشر وحملوا معهم شفيعهم مار اسطفان ليبنوا له كنيسة، تكرّست سنة 1885، ويؤسسوا رعية أصبحت بوابة محافظة لبنان الشمالي.
ما يلفت النظر أن أجدادكم عبروا من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية من وادي حربا مرورًا بجسر المدفون ! الوادي الذي شهد حروبًا قاتلة عبر التاريخ واضطهادات على شعبنا وكنيستنا، وجسر المدفون الشاهد على مئات القتلى من الشهداء أو من الغزاة المضطهِّدين. وهذا الوادي وهذا الجسر لا يزالان يشهدان على الرسالة التي حملتها كنيستنا وحملها أجدادكم؛ ما جعلهم ينقلون معهم أيقونة مار اسطفان ويكرّسون هذه الكنيسة على اسمه، كي يكونوا شهودًا لإيمانهم بالمسيح القائم من الموت من دون خوف ومن دون تراجع ولا استقالة من مسؤولياتهم. أرادوا شفيعًا لهم مار اسطفان، الشهيد الأول في الكنيسة، الذي كان يردّد، بينما كانوا يرجمونه حتى الموت: « يا ربّ لا تحسب عليهم هذه الخطيئة ». من دون حقد ولا بغض ولا روح انتقام سلّم ذاته للرب تاركًا الكنيسة تسير نحو الملكوت بقيادة ورعاية الرسل وخلفائهم ومعهم القديسون والشهداء.
بعد هذه النظرة التاريخية أستطيع القول أن ما نعيشه اليوم من مآسي ليس أقسى مما عاشه آباؤنا وأجدادنا. كل حبّة تراب من أرضنا تشهد على إيمانهم بالله ومحبتهم لبعضهم البعض وتعلّقهم بكنيستهم وأرضهم المقدسة. وبالرغم من أنهم عانوا الحروب والاضطهادات، لم يقبلوا أن يعيشوا في الحقد والضغينة وروح الانتقام.
وهذه الرسالة ذكرّنا بها قداسة البابا فرنسيس في الأول من تموز في يوم الصلاة من أجل لبنان الذي دعا إليه رؤساء كنائسنا في لبنان وطلب من المؤمنين في العالم الاتحاد معه. قال لنا نحن اللبنانيين: « لا تيأسوا، ولا تفقدوا روحكم؛ إبحثوا في جذور تاريخكم عن الرجاء لتزدهروا من جديد». وأضاف: « نحن المسيحيين مدعوون لأن نكون زارعي سلام وصانعي أخوّة، وألاّ نعيش على أحقاد الماضي والتحسُّر، وألاّ نهرب من مسؤوليات الحاضر، وأن ننمّي نظرة رجاء في المستقبل ... وفي ليلة الأزمة نحتاج إلى أن نبقى متّحدين. معًا، ومن خلال استقامة الحوار وصدقِ النوايا، يمكننا أن نحمل النور إلى الأماكن المظلمة ... أيها الأخوة والأخوات، فلتختفِ ليلةُ الصراعات وليُشرقْ من جديد فجر الرجاء. لتتوقّفْ العداوات، ولتغْرُب النزاعات، فيعود لبنان إشعاعًا لنور السلام ».
يوصينا أن لا نحمل الحقد في قلوبنا، بل أن نحمل رسالة وطننا في المحبة والحرية والكرامة والانفتاح واحترام التعددية. رسالتنا على أرض المسيح أن نغفر ونسامح. وهي رسالة بلدتكم تحوم.
عدنا نلتقي بالرغم من وباء كورونا الذي يتجدّد. ولكننا لسنا خائفين منه. بل ربما نخاف من وباء أخطر بكثير يحلّ على شعبنا ووطننا ويجعلنا نتراجع عن دعوتنا ورسالتنا، ألا وهو وباء الشرّ والشيطان، وباء الحقد والانتقام والتطرف، وباء التهجير والهجرة والدمار، الذي يفتك بنا وبوطننا لبنان كي لا يكون وطنًا رسالة في العيش الواحد المشترك. هذا الوباء يخيفنا لأنه « يقتل النفس والجسد معًا ويلقيهما في جهنم ».
لن نتراجع عن شهادتنا ورسالتنا. ومار اسطفان يدعونا إلى الوفاء لتاريخنا الطويل وإلى تربية أولادنا على الإيمان والشهادة.
لن نخاف ولن نفقد رجاءنا بالمسيح الذي لا يخيّب. وسنبني مستقبلاً لأولادنا هنا على أرضنا وفي لبنان.
موجة هذا الوباء الخطير ستعبر، لأن الأمواج تهدأ. أنظروا إلى البحر أمامكم. إنه بحر هادئ.
أنتم، حاملي هذه الرسالة، أنظروا إلى ورائكم، إلى التاريخ، وانظروا إلى أمامكم، إلى البحر، لا لتهاجروا منه لكن لتتأكدوا أن الأمواج تهدأ. فالمسيح الذي هو ربّ الكون يهدّئ الأمواج والرياح. وهو يقول لنا اليوم، كما قال لرسله وتلاميذه: لا تخافوا ! لا تخافوا ! أنا غلبت العالم. لا تخافوا ! أنا معكم حتى منتهى الدهر.
على هذا الإيمان، وعلى هذا الرجاء، ربّوا أولادكم. وكهنتكم معكم لخدمتكم ويقولون لكم: أنتم أبناء الكنيسة، وأولادكم هم مستقبل الكنيسة والمجتمع والوطن. وليبارككم الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس بشفاعة مار اسطفان. آمين.