22-3-2013 قداس في دير مار يوسف جربتا عيد القديسة رفقا

عظة المطران خيرالله

في قداس ليلة عيد القديسة رفقا

الجمعة 22 آذار 2013، في دير مار يوسف جربتا

 

« وصيتي لكم أن تحبوا بعضكم بعضاً» (يوحنا 15/17).

 

حضرة الأب بولس (القزي)،

الأم الرئيسة، أخواتي الراهبات،

أحبائي جميعاً من أين أتيتم.

 

أنا مثلكم أتيت ليلة عيد القديسة رفقا في عودة إلى الينابيع، ينابيع القداسة التي منها هذا المكان. وينابيع القداسة كثيرة في كنيستنا وأرضنا في لبنان.

أنا مثلكم أتيت لأغوص في هذه الينابيع، وأصلّي معكم ومع جوقة القديسة رفقا بأصواتها الملائكية ومع أخواتي الراهبات، من أجل أن نعي أهمية الدعوة التي دعانا إليها الرب يسوع، أي أن نكون قديسين.

القديسة رفقا، التي دعاها الله إلى حياة نسكية بعد أن كانت راهبة في جمعية المريمات -جمعية القلبين الأقدسين اليوم- في حياة رسولية في مجال التربية والتعليم، تركت كل شيء في هذه الدنيا وراحت تختلي بربّها وبذاتها، أولاً على قمة جبل أيطو في دير مار سمعان القرن، ثم سنة 1897 في وادي جربتا حيث دعاها الله بواسطة أبناء هذه المنطقة الطيّبين لتأتي وتؤسس هذا الدير.

اختارها الله لتتقدس هنا في هذا الدير وفي الأرض التي عملت وتعبت فيها مع أخواتها الراهبات.

إنها الدعوة إلى القداسة في موهبة خاصة أي موهبة الحياة النسكية، التي تتجسّد في التجدّد والتقشف والصلاة والابتعاد عن العالم والقرب من الله.

بين قمة مار سمعان القرن في أيطو ووادي جربتا، هناك قرب روحي. لأن هذه الروحانية، التي وضعها أبونا مار مارون في القرن الرابع وعاشها في كنيسة أنطاكية، هي روحانية مميزة في الكنيسة في أبعادها النسكية والرسولية. ولأننا نريد أن نغوص في رحلة عودة إلى الينابيع، يجدر بنا أن نتذكّر مقومات الروحانية التي وضعها مار مارون في الكنيسة الجامعة، وكان ذلك قبل انقسامها بين شرق وغرب.

اختار مار مارون قمة جبال قورش ليعيش عليها بُعده عن العالم وقربه من الله. فعاش في الصلاة المستمرة والصوم والسهر والتقشف. عاش قربه من الله وعلاقته المباشرة معه. لأن قمة الجبل تضعه في قرب من الله وتبعده عن العالم وهمومه. عاش هذا البعد النسكي فقط حباً بالله لأنه عرف أن أصالة الإنسان هي في شخص يسوع المسيح وفي المحبة التي عاشها يسوع المسيح ابن الله مع البشر، كي نحب بعضنا كما هو أحبنا وبذل ذاته في سبيلنا.

واختار مار مارون، مع العيش المتقشف على قمة الجبل، العمل في الأرض. لأن الأرض هي من مخلوقات الله وعلى الإنسان أن يعمل فيها بصدق وإخلاص ويعيش منها بكرامة يتقدس من خلالها.

والمرحلة الثانية من حياته النسكية، كانت حياة رسولية، إذ تقاطر إليه المؤمنون لأنهم كانوا يريدون العودة إلى ينابيع القداسة فيطلبون الصلاة والشفاءات. عاش قربه من الناس الذين أحبهم وعلّمهم وقدّسهم بمنحهم الأسرار بعد أن طلب مطرانُه أن يمنحه سر الكهنوت.

هذه الدعوة التي عاشها مار مارون في الحياة النسكية تبنّاها من بعده تلاميذه وشعبه، ثم كنيسته مع مار يوحنا مارون البطريرك الأول التي حافظت على الروحانية النسكية؛ فعاش شعبه على قمم الجبال أو في قعر الوديان، لأنه بين قمة الجبل وقعر الوادي قربٌ من الله وابتعاد عن الدنيا. فالروحانية هي نفسها والعلاقة مع الله هي نفسها.

هكذا عاش شعبنا مئات السنوات، وهكذا تقدّس كثيرون من أبناء كنيستنا، من بطاركة ومطارنة ورهبان وراهبات وأباء وأمهات، وآخرهم شربل والحرديني ورفقا، وغيرهم كثيرون لم يُعلَنوا أو هم يتقدسون كل يوم.

في العودة إلى الينابيع، يدعونا الله بواسطة القديسة رفقا إلى بناء علاقة مباشرة معه في الصلاة والتأمل والصوم والمحبة. لا يطلب منا أن نكون كلنا نساكاً. لكننا نأتي لنغرف من معين القداسة قوّة لنتقدس نحن أيضاً ونقتنع أننا نستطيع أن نكون قديسين في العالم. كلنا نستطيع أن نتقدس حتى ولو لم نعِشْ على قمم الجبال أو في قعر الوديان. لأن كل الذين سبقونا يصلّون من أجلنا ويدعوننا إلى أن نتقدس ونقدّس العالم.

أنا أيضاً مدعوّ قبلكم ومثلكم أن أتقدس، وأقدّس بخدمتي الأسقفية شعب الله الذي ائتمنني عليه في أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين. مسؤولية كبيرة اتخذت لها شعاراً « خدمة في المحبة»، وشفيعةً القديسة رفقا. لأنني منذ طفولتي، وبحكم قربي من هذا الدير، تربيّت هنا بروحانية القديسة رفقا التي حملت الألم بفرح ورجاء، وبروحانية الراهبات اللواتي يتابعن حياتهن بحسب روحانية القديسة رفقا. ورفقا التي أعلنها الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني يوم الاحتفال بتقديسها شفيعة الألم بفرح ورجاء، علّمتنا أن نحمل الألم بفرح ورجاء.

وكلنا مدعوون أن نتقدس ونحن نحمل كل واحد منا صليبه ليرافق المسيح في مسيرة الآلام حتى الجلجلة والموت على الصليب لنستحق معه مجد القيامة.

وها هو قداسة البابا الجديد فرنسيس، الذي لفت أنظارنا منذ إطلالته الأولى بعد انتخابه، يدخل قلوبنا بوجهه المبتسم ومحبته الكبيرة وتواضعه العميق وبساطته الإنجيلية وقوة إيمانه، وقد اتخذ شفيعاً له مار فرنسيس الأسيزي أب الفقراء وحبيب الطبيعة. إنه يدعونا إلى أن نلبّي دعوتنا إلى القداسة ونعود إلى الأصالة، أصالة الإنجيل في شخص يسوع المسيح ينبوع خلاصنا الوحيد وتقديسنا. ومعه كل صعوباتنا ومشاكلنا تهون والصلبان التي نحملها يخفّ ثقلها لأن المسيح يحملها معنا كما حمل منذ تجسّده إنساناً وحتى موته على الصليب نقصنا وضعفنا وخطايانا.

وقداسة البابا فرنسيس يذكّرنا بآبائنا الذين تقدسوا على جبال لبنان أو في وادي قنوبين وقدّسوا شعبهم، ويطلب صلاتنا كي يتقدس هو بدوره ويقدس شعبه. وأعطاه الله موهبة خاصة كي يكون اليوم خليفة القديس بطرس على رأس الكنيسة ويحمل قضايا البشرية المتألمة والمظلومة والمحرومة من كرامتها، قضايا شعبه في الأرجنتين وفي بلدان أميركا اللاتينية وقضايا شعوب أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، كي يقدمها إلى الرب يسوع ويقدسّها بخدمته في الوحدة والمحبة.

صلاتنا اليوم نقدمها، بشفاعة القديسة رفقا ومريم العذراء، من أجل الكنيسة الجامعة وعلى رأسها البابا فرنسيس، ومن أجل كنيستنا المارونية وعلى رأسها البطريرك مار بشاره، كي نتخذ كلنا قوة من قديسينا ونتقدس بدورنا على أرضنا، أرض الله، ونقدّس العالم الذي نعيش فيه. آمين.

Photo Gallery