عظة المطران منير خيرالله
في قداس احتفال التخرّج في ثانوية مار الياس
لراهبات العائلة المقدسة المارونيات- البترون
الجمعة 24 أيار 2013
« إطمحوا إلى المواهب العظمى» (1 قور 12/31)
سعادة القائمقام،
حضرة الأم الرئيسة، أخواتي الراهبات،
الأهل الأحباء،
أيها المتخرجون والمتخرجات.
بفرحة كبرى أنا معكم اليوم كي أشارككم احتفال تخرّجكم الذي اخترتم له شعاراً: «دائماً نحو الأفضل»؛ واخترتم الطريق الذي رسمها لكم القديس بولس ويقول فيها: «إطمحوا إلى المواهب العظمى، وها إني أدلّكم على طريق أفضل منها كثيراً، طريق المحبة». وطريق المحبة هي أفضل الطرق.
هكذا أنتم اخترتم، ومن خلال الخبرة التي عشتموها معاً، كي تسعَوا دائماً نحو الأفضل.
وإذا اختار القديس بولس طريق المحبة، ذلك لأنه يتشبّه بالسيد المسيح. ويسوع كان المثال الأعلى، إذ إنه لم يكتفِ أن يتكلم عن المحبة، وكانت وصيته الوحيدة: أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم، هذه الكما تغيّر كل شيء، بل عاشها لدرجة أنه ارتضى أن يبذل ذاته في سبيلنا جميعاً.
المحبة، كما يقول القديس بولس في نشيد المحبة (راجع الرسالة الأولى إلى القورنثيين التي قرأتموها)، «تصبر، المحبة تخدم، المحبة تعذر كل شيء، المحبة تصدّق كل شيء وترجو كل شيء وتتحمّل كل شيء... لو كنتُ عالِماً بجميع الأسرار وبالمعرفة كلها ولم تكن فيّ المحبة، فما أنا بشيء».
وجاء المسيح يقول: قد أعطيتكم من ذاتي مثالاً في عيش المحبة.
أيها المتخرجون والمتخرجات،
اخترتم طريق المحبة، وتعرفون أن المحبة تكلّف الكثير؛ تكلّفكم حياتكم. كما كلّفت حياة ابن الله يسوع المسيح الذي لم يكن في حاجة إلى أن يبذل ذاته ويموت على الصليب. لكن لكي يعطينا مثالاً في المحبة التي تعاش ولا تقال، قال: أنا أحببتكم حتى بذل الذات. هل تستطيعون أنتم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم ؟ وإذا أحببتم بعضكم بعضاً يعرف العالم أنكم حقاً تلاميذي. هذه هي العلامة الفارقة.
نحن معكم اليوم – الهيئة التعليمية وأهلكم – لكي نحتفل معكم ليس فقط بعيد المحبة، ولكن أيضاً لكي نطلق طريقكم نحو المستقبل بالمحبة؛ ونعرف كما تعرفون أنها ستكلّفكم غالياً.
الخطوة التي تقومون بها اليوم بعد سنوات قضيتموها في هذه المدرسة هي خطوة كبيرة تفتح أمامكم أبواب المجهول؛ ذلك لأنكم تدخلون في مجتمع تجهلونه، أو تعرفونه من بعيد. ستدخلون معترك الحياة في مجتمعٍ تتقاذفه العواصف والأمواج؛ ستدخلون في بحر هائج، وبخاصة في الظروف التي يمرّ فيها وطننا لبنان ودول المنطقة. سلاحكم الوحيد هو محبتكم. سلاحكم هو إيمانكم بمن علّمكم وعلّمنا المحبة. إنه الضمانة الوحيدة. هذا البحر الهائج سيتحّداكم بالقيم التي تربّيتم عليها.
أنتم تربّيتم في عائلتين: عائلتكم ومدرسة العائلة المقدسة. وهاتان العائلتان تلتقيان منذ زمن بعيد بالتربية التي تلقّيتموها. تربّيتم في عائلتكم ومع أهل تعبوا عليكم وضحّوا بالكثير كي تصلوا إلى حيث وصلتم اليوم وسيتابعون التضحيات كي تكملوا الطريق وتبنوا مستقبلكم. تحمّلوا التضحيات المادية ولكنهم تحمّلوا أيضاً مسؤولية حمل إرث الآباء والأجداد القديسين ونقلِهِ إليكم. نحن في منطقة القداسة والقديسين. أعطوكم كل ما عندهم وأفضل ما عندهم لأنهم يحبونكم.
ثم انتقلتم من عائلتكم إلى العائلة المقدسة التي أسسها البطريرك العظيم الياس الحويك ابن حلتا البترونية سنة 1895 لتربّي وتعلّم الفتيات أولاً على القيم الإنسانية والمسيحية.
وفي العائلتين تربيتم على حمل مسؤولية بناء لبنان، الوطن الذي ضحّى آباؤنا وأجدادنا معاً، مسيحيون ومسلمون، في سبيل بنائه وطناً رسالة. البطريرك الحويك الذي تبنّى كل جهود الآباء والأجداد سعى باسم جميع اللبنانيين مع دول العالم ومراكز القرار إلى بناء لبنان وطناً لجميع أبنائه يعيشون في الحرية والكرامة والاحتارم المتبادل.
وإذا كان البعض منا اليوم، بجهلهم وتراخيهم واستقالتهم، يريدون أن يتخلّوا عن هذا الوطن، فنقول لهم أنهم مخطئون. وإذا تراجعوا عنه فهم الخاسرون. لأن لبنان هو وحده الباقي. والأمواج والعواصف التي تهدر في البحر تضرب سطح البحر، لكنها لا تمسّ العمق. فالعمق يبقى صامداً ثابتاً. هذا هو لبنان. لأن الذين بَنَوه عملوا على بنائه في العمق، بعمق القيم التي حملوها بوحدتهم وتضامنهم، وحريتهم وكرامتهم، واحترامهم لكل إنسان في حقه في الحياة، وبانفتاحهم على تعددية الثقافات والحضارات والطوائف والأديان.
هذه هي المسؤولية التي نلقيها اليوم على عاتقكم؛ وهو الوقت الذي فيه ترفعون التحدّي. ستسمعون الكثيرين يقولون لكم: ألا زلتم متمسكين بالقيم ؟ ألا زلتم تؤمنون بالمحبة ؟ والصدق والإخلاص والتضحية في سبيل الوطن ؟
سيقولون لكم: إفعلوا كما يفعل الجميع. عيشوا بالفساد والبرطيل والتحايل على القانون ! لأنكم إذا عشتم بحسب القيم التي تربيتم عليها لا تستطيعون أن تدخلوا المجتمع، وأن تجدوا لكم فيه عملاً لائقاً، وأن تفتحوا أمامكم أبواب المستقبل، وأن تبنوا لكم عائلة.
لا تصدّقوا. حافظوا على القيم التي تربيتم عليها، ولا تفرّطوا بها. نحن هنا بفضل صمود آبائنا وأجدادنا في وجه كل التحديات، ذلك لأنهم حافظوا على الثوابت الثلاث: الإيمان والمعول والقلم.
بفضل إيمان آبائنا وأجدادنا، وبفضل إيماننا، ثبتنا وسنبقى ثابتين. إيماننا بالله الذي أحبنا لدرجة أنه بذل ابنه يسوع المسيح على الصليب في سبيلنا. هذا هو الله الذي نؤمن به والذي هو محبة لا حدود لها.
ثانياً المعول. أجدادكم وآباؤكم تعبوا في الأرض التي تعيشون أنتم عليها الآن، لأنهم بمعدورهم حوّلوا هذه الجبال الوعرة والصخرية إلى جنّات يعتاشون منها بكرامتهم ورأسهم المرفوع. تمسّكوا بأرضهم لأنهم سقوها من عرق جبينهم. وكان هذا المعول ضمانة لثباتهم ووقوفهم في وجه كل التحديات.
ثالثاً القلم أي الثقافة. هل تعرفون أن آباءكم ضحّوا وأهلكم اليوم يضحّون بالغالي والنفيس لكي يؤمّنوا لكم العلم والثقافة وتكون لكم الضمانة لتأمين مستقبلكم ؟
لذا ارجوكم، تذكروا دوماً الذين تعبوا عليكم، وتذكّروا هذه الثوابت الثلاث التي ستكون ضمانتكم في مواجهة عواصف وأمواج المجتمع الذي ستدخلون إليه.
لا تخافوا ! أنتم أقوياء بهذه الثوابت. ونحن معكم، ولن نترككم، ولن نقبل أن نسلّمكم مجتمعاً فاشلاً. وإذا كنّا اليوم في عصر انحطاط، فإنها مرحلة عابرة كما أمواج البحر. ولكن القيم باقية، وأنتم باقون لتشهدوا وتعيشوا معاً، كما تربيتم في عائلاتكم ومدرستكم؛ نعم، لتعيشوا معاً بحرية وكرامة وتحبّوا بعضكم بعضاً، وتحترموا كل إنسان.
عيشوا معاً إذاً، مسيحيين ومسلمين، وآمنوا أنكم قادرون على العيش معاً. وآمنوا أن هذا هو لبنان، وأنكم مسؤولون عن إعادة بنائه في دعوته التاريخية ورسالته المنفتحة على العالم.
ثقتنا بكم كبيرة. لا تخافوا ! والرب يسوع معكم ويسدّد خطاكم ويقول لكم دوماً: « أثبتوا في محبتي، واسألوا ما تشاؤون والله الآب يستجيب لكم».
الله يبارككم ويفتح أمامكم أبواب النجاح ويعيطم الجرأة الكافية كي لا تتراجعوا لحظة واحدة عن تلك الثوابت والقيم. وإذا كنتم موحدين ومتضامنين فأنتم قادرون على بناء لبنان الجديد. آمين.