عظة المطران منير خيرالله
في قداس استقبال تمثال العذراء أم النور
في كاتدرائية مار اسطفان- البترون
الأربعاء 29 أيار 2013
« ما لي ولكِ أيتها المرأة ؟ لم تأتِ ساعتي بعد» (يوحنا 2/3-4).
صاحب السيادة المطران أنطوان بيلوني،
الأب سمير بشاره المرشد العام لرابطة الأخويات في لبنان،
أخوتي الكهنة: المرسلين اللبنانيين وكهنة الأبرشية
أحبائي جميعاً: أخويات وطلائع وفرسان وزنابق وعائلات
فرحتنا كبيرة اليوم أن نكون حول مريم، وسؤالنا واحد: لماذا نكرّم مريم ؟ ما هو السرّ؟
لا نستطيع أن نفهم سرّ مريم إلا إذا دخلنا في سرّ يسوع ابن الله الذي صار إنساناً ليفتدي جميع البشر ويحمل البشرية إلى الخلاص.
سرّ يسوع المسيح ابن الله أُعلن منذ ولادته إنساناً بيننا.
بدأت مسيرة ولادته بالبشارة لمريم. جاء الملاك، مرسَل الرب، يقول لمريم، الصبيّة التي كانت تكرّس حياتها لله وتسمع كلامه، ويبشرها بخبر عظيم: « يا ممتلئة نعمة، الرب معك». اختارك الله من بين نساء العالم لتكوني أماً لابنه يسوع، المخلّص المنتظر، « ابن العليّ، الذي سيملك على عرش أبيه داود ولن يكون لملكه انقضاء». (لوقا 1/28-33). لم تفهم مريم، لكنها قالت نعم: « ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك». (لوقا 1/38).
من هنا بدأت مغامرة مريم مع سرّ يسوع الإله الذي سيولد إنساناً من مريم بالروح القدس.
تفوّهت مريم بهذه الكلمات، وبغيرها من الكلمات القليلة بعد ذلك، ولكنها عاشت مرحلة حياة يسوع الإنسان بصمت وبمحبة لا حدود لها وبخدمة مجانية وبتواضع كبير.
لذلك نحن بعد أجيال نكرّم مريم ونطوّبها.
كيف رافقت مريم ابنها يسوع ؟
- المحطة الأولى: ولادة يسوع.
منذ أن ولد يسوع من مريم بالروح، وأخلى ذاته الإلهية، وصار إنساناً لكل البشر ولكل الشعوب، لم يعد فقط ابناً لمريم، بل صار لكل البشر. وعند الولادة قال الملاك للرعاة: « ها إني أبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله: « وُلد لكم اليوم مخلص وهو المسيح الرب» (لوقا 2/10).
مريم منذ الولادة فهمت هذا السرّ أي أن يسوع لم يعُدْ ابنها بل هو لجميع البشر، وحملته طيلة حياتها. « وكانت تحفظ كل هذه الأمور وتتأملها في قلبها» (لوقا 2/19).
- المحطة الثانية: تقدمة يسوع إلى الرب في الهيكل.
سمعان الشيخ، « رجلٌ بارّ تقيّ والروح القدس نازل عليه، حمل على ذراعيه الطفل يسوع وبارك الله وقال: الآن أطلق يا رب عبدك بسلام، لأن عيناي أبصرتا خلاصك الذي أعددته للشعوب كلها نوراً ينجلي للأمم ومجداً لشعبك اسرائيل». وقال لمريم أمه: « سينفذ سيف في نفسك» (لوقا 2/29-35).
ومريم كانت تحفظ هذه الأمور بصمت وتتأملها في قلبها.
- المحطة الثالثة: يسوع في الهيكل بين العلماء.
يسوف ومريم يبحثان عن يسوع. ولما وجداه بعد ثلاثة أيام، « قالت له أمه: « يا بُنيّ، لِمَ صنعت بنا ذلك ؟ فقال لهما: ألم تعلما أنه يجب علي أن أكون في ما هو لأبي ؟» (لوقا 2/48-49). أنا لست لكما. أنا لم أعُدْ ابنكما. بل يجب عليّ أن أتممّ مشيئة أبي الذي في السماوات؛ ومشيئته هي أن يتمّ الخلاص فيّ وبالمحبة التي فيها أبذل ذاتي على الصليب.
- المحطة الرابعة: في عرس قانا الجليل، في بداية رسالة يسوع البتشيرية.
« قالت له أمه: ليس عندهم خمر. فقال لها يسوع: ما لي ولكِ أيتها المرأة ؟ لم تأتِ ساعتي بعد» (يوحنا 2/3-4). لماذا قال لها أيتها المرأة ؟ لأنه يعرف أنها فهمت سرّ تجسده إنساناً وسرّه الخلاصي بين البشر. فلم تُجب بأي كلمة، بل قالت للخدم: « إفعلوا ما يأمركم به». واختفت. يسوع أطاع أمه وحوّل الماء خمراً كي يبقى الفرح عامراً في عرس قانا الجليل وفي كل مكان.
- المحطة الخامسة: عند الصليب، أي عند نهاية رسالة يسوع التبشيرية والخلاصية بين البشر.
يقول يوحنا في إنجيله: « فرأى يسوع أمه وإلى جانبها التلميذ الذي كان يحبه. فقال لأمه: أيتها المرأة، هوذا ابنك. ثم قال للتلميذ: هذه أمك» (يوحنا 19/25-27).
في بداية رسالته التبشيرية خاطب أمه قائلاً: أيتها المرأة. وهنا أيضاً، ساعة موته على الصليب قبل أن يغادر هذه الدنيا، يخاطبها قائلاً: أيتها المرأة هوذا ابنك، وقال للتلميذ: هذه أمك. كل هذه الأمور التي كانت مريم تحفظها وتتأملها في قلبها تظهر هنا في سرّ موت يسوع على الصليب: يسوع يسلّم البشرية من خلال يوحنا إلى مريم أمه. إنها أم البشر أجمعين وأم كل الشعوب.
مات يسوع وقام وظهر للرسل والتلاميذ، ولم يصدّقوا، لأنهم كانوا لا يزالون في الخوف والقلق على مصيرهم، لئلا يموتوا كما مات يسوع. وحدها مريم صدّقت القيامة، لأنها منذ البدء قالت نعم لمشيئة الله وهي أن يصير ابن الله إنساناً وأن يحمل الصليب ويموت عليه وأن يقوم في اليوم الثالث، وبقيامته يعطي الحياة الجديدة للبشر أجمعين.
مريم حملت هذا السرّ وحفظته حتى النهاية. وهي التي بشرت به وشجعت الرسل قبل العنصرة وبعد حلول الروح كانت معهم في انطلاقة الكنيسة إلى العالم كله، حيث كان يسوع قال لهم: إذهبوا في الأرض كلها، إحملوا بشارة الخلاص، إشهدوا على أني تجسدت إنساناً وأني متّ على الصليب وأني قمت لأعطي الحياة لجميع البشر. « إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به»، (متى 28/19-20)، وأحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. وإذا أحببتم بعضكم بعضاً يعرف العالم أنكم حقاً تلاميذي.
هكذا كانت مريم في بداية سرّ الخلاص وفي نهاية رسالة يسوع الخلاصية بين البشر وفي انطلاقة الكنيسة إلى العالم كله.
مريم الصامتة، مريم المتواضعة، مريم المُحبة، التي كانت تحفظ سرّ ابنها يسوع وتتأمله في قلبها.
كل هذه الأسباب جعلت الكنيسة الأولى مع الرسل، وجعلت الكنيسة حتى اليوم وإلى دهر الدهور، تكرّم مريم وتسمّيها في المجامع الأولى « أم الله». مريم أصبحت مثالاً لنا جميعاً.
نحن اليوم في أبرشية البترون، كما كل الأبرشيات التي استقبلت العذراء مريم، نجدد إيماننا بسرّ يسوع المسيح ابن الله مع مريم وبشفاعتها، ونجدد التزامنا بما علّمتنا مريم: الصمت والخدمة في المحبة والتواضع. علّمتنا مريم أن نحمل سرّ ابنها يسوع ونتأمله في قلوبنا. وهي التي تدلّنا على ابنها يسوع. إنها الطريق إلى يسوع.
هذا هو إيماننا، إيمان الكنيسة، التي علينا أن نجدد التزامنا بعيشه اليوم وكل يوم، ونحن في سنة الإيمان.
مع مريم، الكنيسة تحرّرت من عقدة الخوف. مع مريم نحن أيضاً نتحرّر من عقدة الخوف.
لا تخافوا ! مع مريم نحن كلنا ثقة بأن أبواب الجحيم لن تقوى على الكنيسة. نحن كلنا ثقة أن يسوع سيطيع أمه مريم عندما تطلب منه، وهي تطلب ما نحتاج إليه.
نحن أقوياء. كنيستنا، كنيسة المسيح، باقية في العالم وفي هذه الأرض التي قدّسها يسوع مع أمه مريم، ونحن باقون بفضل الإيمان الذي نقله إلينا آباؤنا وأجدادنا القديسون، ونحن نعيش على أرض القداسة والقديسين. فلا خوف علينا. فقط إسمعوا مريم تقول لكم: إفعلوا ما يأمركم به ابني يسوع. والباقي يفعله هو. آمين.