عظة المطران منير خيرالله
في قداس استقبال تمثال العذراء أم النور
في كنيسة سيدة الإنتقال- تنورين
الخميس 30 ايار 2013
مريم العذراء والموارنة
بين حياة مريم وحياة الموارنة أوجه شبه عديدة.
أ- في الدعوة.
دعا الرب مريم، قبل أن تولد مملوءة من نعمته، دعاها لتكون أماً لابنه، دعاها من لبنان، من جبل لبنان، كما نقرأ في سفر نشيد الأناشيد: « هلمي معي يا حبيبتي من لبنان» (4/8).
فلبّت مريم الدعوة وتركت كل شيء. وقالت: « ها أنا أمة الرب».
وتشبهاً بمريم وتيمناً بها، لبّى تلاميذ مارون والموارنة من بعدهم دعوة الرب، فتركوا كل شيء وأموا جبال لبنان وحوّلوها إلى معابد وأديار تتغنّى بمريم أم الله وتعيش عشقاً إلهياً وهي تردد:
« هيا معي من لبنان من واديه من وكر النسر الشاهق
هيا معي من لبنان من أفياء الأرز التيّاه العابق
هللويا بكر لبنان».
أو: « من ربى لبنان طيري حلّقي
في رقيق الغيم وشي الزنبق
في عبير الورد مدَّ الأفق
يا عروس الروح أم المُشفق».
وفي عشقهم هذا، مثّل الموارنة مريم أم الله بأرزة لبنان في خلودها وشموخها. فهم الوحيدون في العالم الذين يزيدون في طلبة العذراء جملة: « يا أرزة لبنان- تضرعي لأجلنا».
ب- في الحياة النسكية.
عاشت مريم في العالم وبعيدة عن العالم. عاشت في تواضع كبير.
عاشت في صمت دائم. « وكانت تحفظ هذه الأشياء كلها بصمت في قلبها».
عاشت في وقوف مستمر حتى الصليب بقيت وحدها واقفة عند الصليب، برفقة يوحنا التلميذ الحبيب، تتألم دون أن تتكلم. عشقت مريم الصليب لأنها منذ ولادة يسوع ابنها وتقديمه إلى الهيكل، سمعت على لسان سمعان الشيخ: « سيجتاز سيف في قلبك».
فعاشت مريم روحانية الصليب.
كذلك تلاميذ مارون والموارنة من بعدهم تبنوا روحانية الصليب ووعدوا مريم بأن يبقوا بقربها عند الصليب إذ يتحملون في سبيل حبهم للمسيح وإيمانهم به كل اضطهاد وعذاب وموت، وبأن يبقوا مثل مريم واقفين للصلاة والتضرع والتقشف. وسيبقون واقفين باذن الله وبشفاعة مريم.
ج- في الحياة الرسولية:
وأما حياة مريم الرسولية فكانت حافلة ولكن بعيدة عن الأضواء. كانت موجودة في بداية حياة يسوع الرسولية إذ أمرت الخدام في عرس قانا الجليل قائلة: « إفعلوا ما يأمركم به».
كانت ترافق يسوع ولكن من بعيد: « إن أمك وأخوتك خارجاً يطلبونك». وبعد القيامة، كانت في العلية مع الرسل تصلي. وشهدت لانطلاقة الكنيسة يوم العنصرة.
وأنهت حياتها مع يوحنا ولوقا في أفسس، وكان لها دور في تأسيس تلك الكنيسة. حمل الرسل مريم أم الله في قلوبهم وكانوا يلتجئون إليها غالباً. كذلك تلاميذ مارون والموارنة من بعدهم حملوا في قلوبهم مريم أم الله وراحوا يغنون لها ويهللون ويلجأون إليها ويطلبون شفاعتها لأنها كانت أمهم وملجاهم أمام ابنها يسوع المسيح وأمام الآب السماوي.
بطاركتنا حملوها في حلهم وترحالهم: من سيدة يانوح، إلى سيدة إيليج، إلى سيدة هابيل، إلى سيدة قنوبين، إلى سيدة بكركي... والمسيرة لا تزال هي هي.
وقرانا كلها في الجبال والوديان تحمّل كنائسها أو مزاراتها أو أماكن عبادتها اسم السيدة وقد لا تخلو قرية أو مدينة يقطنها الموارنة من كنيسة أو معبد أو مزار للعذراء مريم. وتتخذ العذراء أسماء مختلفة وفقاً لحاجة المؤمنين وطلباتهم المتنوعة، وهي ترافقهم منذ الولادة حتى الممات: سيدة البزاز والدرّ، سيدة الحقلة والبيدر، سيدة الغابة والمنطرة والزروع، سيدة البوابة، سيدة التلّة، سيدة الحبساء، سيدة السياح، سيدة المهاجرين، سيدة البحار، سيدة رأس النبع والبير، سيدة المعونات والعطايا، سيدة النجاة والخلاص، سيدة القلعة والحصن والبرج، سيدة النصر، سيدة النياح والإنتقال...
وهناك بلدات حملت اسمها السيدة: سيدة حريصا أو سيدة لبنان، سيدة بشري، سيدة زغرتا، سيدة بشوات....
حتى في انتشارهم العالمي، حمل الموارنة اسم السيدة أم الله وشيّدوا لها الكنائس وغيرها.... (راجع رسالة غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير « في الطوباوية مريم» في مناسبة السنة المريمة، 1987).
في حياة الموارنة العائلية يبرز التكريم لمريم جلياً: كم من بنات في عائلاتنا يدعون باسم مريم أو سيدة...
وكم نلفظ اسم مريم في كل لحظة من حياتنا العائلية: « يا عدرا دخلك»، « آخ يا عدرا»....
ولا يزال الموارنة حتى اليوم يرددون لها التهاليل يعبّرون فيها عن إيمانهم بدور مريم في رفع شأنهم أمام الآب السماوي:
- حبك يا مريم غاية المنى يا أم المعظم كوني أمنا
ابنك أوصاك بنا في الصليب اعطانا إياك في شخص الحبيب.
- عليك السلام بلا ملل يا نجمة البحر والأمل
يا والدة رب الأزل وهي بتول لم تزل
أنت الغنية في النعم ونحن بنوك في عدم
فرقّي لنا عند الندم فمن جاءك نال الأمل.
- يا مريم البكر فقت الشمس والقمر وكل نجم بافلاك السماء سرى
يا أم يسوع يا أمي ويا أملي لا تهمليني متى عني الخطا صدر
يا نجمة الصبح شعي في معابدنا ونوّري عقلنا والسمع والبصر.
أو هذه الطلبة القديمة العهد: نسجد لك يا بارينا اذ قد أنعمت علينا
بالبتول النقية مريم فهي كل حين تشفع فينا
نطلب منك يا مريم من الشيطان نجينا، من الآثام وقينا،
من الطاعون خلصينا، خير السماوات أعطينا،
باركي ثمار أراضينا، اشفي المرضى الموجعينا،
أعيدي أولادك المهجرين، أعيني الموتى المؤمنين.
وأخيراً، لا يزال الموارنة ينشدون الأنشودة الشعبية المعروفة: يا أم الله يا حنونة... وإن كان جسمك بعيداً منا، أيتها البتول أمنا، صلواتك هي تصحبنا وتكون معنا وتحفظنا. وهذه الأنشودة قديمة جداً ترقى ربما إلى القرن الخامس أو إلى مار افرام وهي مستقاة من صلاة الساعة التاسعة من يوم الأربعاء في الشحيمة المارونية.
وختاماً، يمكننا القول انه طالما بقي صوت حنون يرندح في كنائسنا « يا أم الله يا حنونة»، وطالما بقي كاهن يحمل صورة العذراء مريم ليختفي وراءها حاملاً شعبه ليزيحه مع مريم، فلا خوف علينا من البقاء في هذه الأرض المقدسة حاملين شعلة الشهادة للمسيح بشفاعة أمه مريم.