عظة المطران منير خيرالله
في كنيسة سيدة لبنان- سيدني استراليا
الأحد 2 حزيران 2013
« من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه، وإليه نأتي ونجعل لنا عنده منزلاً » (يوحنا 14/21-23)
إخوتي الكهنة،
أحبائي جميعاً أبناء مارون في استراليا.
فرحتي كبيرة اليوم أن أكون هنا في كنيسة سيدة لبنان سيدني، وللمرة الأولى، لأحتفل معكم بالقداس الإلهي، قمة حياتنا المسيحية، ونشارك معاً في ذبيحة الخلاص التي من أجلها سيدنا يسوع المسيح ابن الله صار إنساناً وحمل إنسانيتنا وافتدانا بموته على الصليب وبقيامته. فرحة كبيرة أن نلتقي اليوم لنجدد ارتباطنا أولاً بالسيد المسيح، وارتباطنا ثانياً بكنيستنا المارونية، وارتباطنا ثالثاً بلبنان.
أولاً: نريد أن نجدد إيماننا وارتباطنا بالسيد المسيح. فهو أساس وجوهر إيماننا وهو الذي يقول لنا اليوم في الإنجيل: « من يحبني يحفظ كلمتي، وأبي يحبه وإليه نأتي ونجعل لنا عنده منزلاً». إنها نعمة كبيرة يعطينا إياها الرب من فيض حبه ويطلب منا فقط أن نبادله المحبة وأن نحفظ كلمته ونعيشها كل يوم.
ما هي كلمته وما هو تعليمه ؟
يعلمنا أنه هو الله الإبن الذي أرسله الله الآب من فيض حبه اللامتناهي للبشر ليصير إنساناً مثلنا ويولد على أرضنا، هذه الأرض التي قدسها، ويقبل الموت على الصليب لفدائنا جميعاً. إنها قمة المحبة. ويقول لنا: « وما من حب أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». بموته بذل ذاته فداءً عنا وبقيامته أعطانا الحياة الجديدة. وترك لنا وصية وحيدة تلخص تعاليم العهد القديم والشريعة والأنبياء: « أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم». وزاد قائلاً: « لاتخافوا، ها أنا معكم حتى منتهى الدهر»؛ « لا تخافوا أنا غلبت العالم». وفي إنجيل اليوم يقول: « لا يضطرب قلبكم ولا يخف». وأكثر من ذلك: أنا والآب والروح نأتي إليكم ونصنع لنا عندكم منزلاً. يا لها من نعمة عظيمة. وإذا أردنا أن نقدّر هذه النعمة، علينا أن نحفظ وصية يسوع وأن نعيش المحبة.
والمحبة فضيلة كبيرة، ولكنها غالية جداً لأنها تكلّف الكثير. فإذا كانت المحبة كلّفت الله أن يبذل ابنه الوحيد يسوع المسيح، فماذا ننتظر نحن أن تكلّفنا المحبة ؟ أن نبذل ذاتنا ! هل نحن قادرون على عيش هذه المحبة ؟ إنه تحدٍّ كبير للمسيحيين اليوم هنا وفي كل مكان من العالم. فالمطلوب منا نحن المسيحيين أن نعيش المحبة بين بعضنا البعض لكي يعرف العالم أننا حقيقة تلاميذ المسيح؛ ثم أن نشعّ بالمحبة على العالم الذي نعيش فيه.
ثانياً: نريد أن نجدد ارتباطنا بكنيستنا المارونية، كنيسة مار مارون، التي جاء أجدادكم وآباؤكم حاملين تاريخها وتراثها إلى هذه الأرض الجديدة. ولا تزالون أنتم حاملين هذا التراث مع إيمانكم الكبير ومحافظين عليه. ونشكر الله عنكم جميعاً. لا تزالون حاملينه لأن كنيستكم المارونية لا زالت في قلبكم وفي قلب أولادكم والأجيال الطالعة؛ ولأنكم تعرفون أن تاريخ هذه الكنيسة هو تاريخ حافل بالصعوبات والتحديات والاحتلالات والإضطهادات التي مرّت عليها وحملت خلالها الصليب طيلة مئات السنوات.
هذه الكنيسة باقية وفيّة لإيمانها بالمسيح بشفاعة مار مارون ومار يوحنا مارون الذي أسسها كنيسة بطريركية تقدس فيها بطاركة وأساقفة ورهبان وراهبات وآباء وأمهات. وستبقى كنيستنا ثابتة لأنها كنيسة المسيح على اسم مارون حاملة رسالة مميزة بفضلكم كما بفضل الذين سبقوكم وضحّوا وجاهدوا ليعيشوا المحبة، وقبلوا أن يدفعوا أغلى الأثمان في سبيل الحفاظ عليها وعلى رسالتها المميزة في العالم.
نحن نفتخر بكم اليوم لأنكم لا تزالون تعيشون إيمانكم وتقولون نحن مسيحيون في هذه الأرض الجديدة، لكن عندنا نكهة خاصة نحملها معنا من لبنان من أرض المسيح، وحاملين رسالة كنيستنا، رسالة الإنفتاح والحرية واحترام كل البشر في معتقداتهم وثقافاتهم.
ثالثاً: نريد أن نجدّد ارتباطنا بالأرض الأم والوطن الأم، لبنان. لبنان، «الوطن الرسالة» كما قال عنه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، و«الوطن النموذج» كما قال عنه البابا بنديكتوس السادس عشر عندما زارنا في لبنان منذ حوالى السنة والنصف. هذا الوطن الذي ضحى آباؤنا وأجدادنا في سبيل بنائه وفي سبيل أن يبقى الوطن الرسالة. ولكن أي رسالة ؟
لبنان وطن الإنسان هو رسالة حب وسلام؛ رسالة انفتاح واحترام للتعددية. تعددية الثقافات والحضارات والطوائف والديانات؛ رسالة الحرية والكرامة. لبنان هو أرض القداسة لأن الله اختارها وقفاً له. إنه أرض صغيرة، لا تساوي إلا نقطة في أستراليا، لكن أهميته هي أنه أرض الله. هكذا آمن آباؤنا وأجدادنا، وعلى هذا الأساس بنوا لبنان وطناً ليبقى مُلكاً لله لا للإنسان. لبنان أرض مرّ عليها أمبراطوريات وسلطنات وشعوب وجيوش واحتلّوها ودمروها وقتلوا سكانها، لكنهم غادروها وبقي لبنان صامداً في كيانه وفي شعبه وفي رسالته.
أنتم اليوم في أستراليا، هذه الأرض الجديدة، ولا تحملون جميعكم ربما الهوية اللبنانية، لكن ما يربطكم بلبنان هو دوره ورسالته المميزة التي تحملونها في قلوبكم.
لا تخافوا إذاً على لبنان. السياسة عابرة كما هو عابر مصير أسيادها وسلاطينها، لكن لبنان باقٍ ونحن باقون فيه بحريتنا وكرامتنا ورأسنا المرفوع. لا تخافوا على مصير لبنان، فكل مصالح العالم تموت على أرضه.
لا تخافوا. إبقوا محافظين على إيمانكم بالله وعلى ارتباطكم بكنيستكم وتعلقكم بوطنكم. هذا هو الإرث العظيم الذي عليكم أن تنقلوه بدمكم وبحليب الأمهات إلى أولادكم. قولوا لهم إنهم يحملون رسالة لبنان ورسالة المسيح بنكهة مارونية. وعندما أتى أجدادكم وآباؤكم إلى هذه الأرض الجديدة كانوا واعين لحمل هذه الرسالة بالنكهة المارونية وساهموا ببناء أستراليا وازدهارها. لا تخافوا. نحن أقوياء إذاً بإيماننا وأقوياء بفضلكم وبفضل أجيالنا الطالعة المنتشرة عبر العالم.
صلاتنا اليوم نرفعها، معكم ومع عائلاتكم ومع إخوتنا اللبنانيين والموارنة الموجودين في أستراليا، إلى الله بشفاعة أمنا مريم سيدة لبنان، من أجل كنيستنا وعلى رأسها غبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الذي هو السابع والسبعون في سلسلة بطاركتنا ليبقى وفياً للرسالة التي تسلّمها في رعاية شعبه، ومن أجل لبنان كي يبقى واقفاً بإذن الله وحاملاً رسالته إلى العالم كله.
فليبارككم الله بشفاعة العذراء مريم وجميع قديسينا لتبقوا شهود المسيح في أوطانكم الجديدة بنكهة مارونية. آمين.