عظة المطران خيرالله
في قداس ليلة عيد الطوباوي الأخ اسطفان نعمه
في دير مار قبريانوس ويوستينا- كفيفان
الأربعاء 26 حزيران 2013
« إذهب وبعْ ما تملك ووزعه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماوات، وتعال فاتبعني» (لوقا 18/22)
الأب الرئيس، إخوتي الكهنة
أخواتي الراهبات،
أحبائي جميعاً أعضاء الأخويات وأبناء وبنات الأبرشية،
يا من أتيتم تعيّدون الطوباوي الأخ اسطفان.
سمعنا معاً كلمة الله الموجهة إلينا في عيد الطوباوي الأخ اسطفان نعمه. كلمة الله، كما حياة الأخ اسطفان، هي مدرسة حياة، تدعونا إلى التخلّي عن كل ما في هذه الدينا كي نتبع المسيح.
هذه المدرسة تدعونا إلى الإلتزام بالدعوة التي دعانا إليها الرب يسوع المسيح.
لننطلق أولاً من دعوة يسوع للشاب الغني الذي كان يعتبر نفسه صالحاً وقريباً من الله لأنه يحفظ الوصايا. جاء يطلب من يسوع: « ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية ؟». قال له يسوع: « هل تعرف الوصايا ؟». طبعاً، قال الشاب، « لقد حفظتها منذ صباي».
لكن يسوع يطلب أكثر من حفظ الوصايا. يسوع يطلب الالتزام بالعمل: عليك أن تطبق الوصايا، لا أن تحفظها فحسب. وإذا كنت تحب الله وتحب قريبك كنفسك، إذهب وبعْ كل ما لك ووزعه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماوات، وتعال فاتبعني.
هذه هي دعوة يسوع إلى كل واحد منا، اليوم ومن ألفي سنة، وإلى أبد الابدين. ومن أراد أن يربح الحياة الأبدية، عليه أن يسمع هذه الدعوة وأن يلبيها في حياته.
لكن تلبية هذه الدعوة تكلّف غالياً. رأى هذا الشاب الغني، مع كل نيته الطيبة، أن تلبية دعوة يسوع له تكلّفه أن يتخلّى عن ما يملك. يسوع يطلب الكثير، إنه متطلّب، لأنه يعطينا الحياة الأبدية، الحياة التي لا تقارنَ بكل ما نملك على هذه الأرض. « فذهب ذلك الشاب حزيناً لأنه كان ذا مالٍ كثير». ساعتئذ نظر يسوع إلى رسله وتلاميذه منتظراً منهم الجواب. فقال له بطرس بعفويته المعهودة: « يا رب لقد تركنا كل شيء وتبعناك، فما عساه يكون لنا». ماذ تعطينا في المقابل. هذا هو منطق البشر. فقال لهم يسوع، « ما من أحد ترك بيتاً أو إمرأة أو إخوة أو والدين أو بنين من أجل ملكوت الله، إلا ونال في هذه الدنيا أضعافاً، ونال في الآخرة الحياة الأبدية» (لوقا 18/28-30).
مع الأخ اسطفان نحن أمام مدرسة روحية، لأنه عرف منذ صغره كيف يلبّي دعوة الرب يسوع له.
وُلد الأخ اسطفان في لحفد سنة 1889 في عائلة مسيحية، مثل جميع عائلاتنا، وتربى فيها على الصلاة وعلى التسليم الكامل لإرادة الله؛ تربى فيها أن يكون مسيحياً ملتزماً.
وعائلة الأخ اسطفان، كما كل عائلاتنا القديسة، كانت تربي ببساطة وتواضع على محبة الله ومحبة الإنسان، كل إنسان، وعلى عيش القيم الروحية المسيحية. كانت عائلته تصلّي، وفي الصلاة تتطلّع العائلة إلى السماء، إلى الله فتسمع صوته ونداءه، وتلبي الدعوة، أياً كانت تلك الدعوة. فكان اسطفان الطفل يسمع في الصلاة صوت الله، ويسمع نداءه ربما ليتخلّى عن كل شيء في هذه الدنيا ويتبعه. منذ صغره صلّى مع العائلة، ثم كان يرغب بالخلوة والإنفراد ليصلي أكثر ويلتقي ربه في لقاء حميم.
سمع صوت الله يناديه بعمر السادسة عشرة. فترك البيت وجاء إلى هذا الدير في كفيفان الذي له تاريخ قداسة وله تراث عريق في عيش الروحانية الإنجيلية وروحانيتنا المارونية التي أسسها، في عيشه، القديس مارون الناسك والكاهن.
دخل هذا الدير وتنشأ على يد رهبان قديسين. ثم أبرز نذوره الرهبانية سنة 1907 بعمر الثامنة عشرة. وبدأ حياته الرهبانية يتنقل من دير إلى دير لكي يعيش بصدق وأمانة دعوة الله له في القيم الرهبانية وفي الالتزام الروحي وفي العيش باتصال دائم مع الله، عبر صلاته وعمله في الأرض. فالأرض كانت ولا تزال وستبقى مع الإيمان والصلاة، عنصراً هاماً من عناصر هويتنا الروحانية المارونية. فأراد أن يعيش التزاماً روحياً والتزاماً في العمل في الأرض. فتنقل من دير كفيفان إلى دير سيدة ميفوق، إلى دير سيدة المعونات جبيل، إلى دير مار انطونيوس حوب، إلى أن انتهى في كفيفان حيث توفي سنة 1938، بعمر تسع وأربعين سنة.
قرّر أن يبقى أخاً، لأنه كان يعتبر أنه لا يستحق سر الكهنوت. بقي راهباً ناذراً حياته لخدمة الله عبر خدمته للدير وللجماعة الرهبانية وللأرض التي كان يسقيها من عرق جبينه، ولجيمع المؤمنين الذين كانوا يأتون لزيارة الدير. فكان منارة روحية ومثالاً في تخلّيه عن كل ما في هذه الدنيا.
وبعد إحدى وثلاثين سنة من حياته الرهبانية فارق الحياة بعد أن أعطى بدون حساب وبدون حدود. ولم يطلب يوماً شيئاً في المقابل، لأنه كان يعرف أنه سيربح الحياة الأبدية.
كان شعاره في مدرسته الروحية، التي هي مدرسة الرهبانية كلها، « الله يراني». لأنه كان يعتبر أن علاقته منذ صغره مع الله هي علاقة ثقة وعلاقة صِلة وصلاة. فالله يراه كما يرى كل واحد منا. وكان يردّد دوماً على مسامع العمال الذين يعملون معه في الأرض أو الحجاج الذين يؤمون الدير: لا تنسوا أن الله يرانا. وكل ما تريدون أن تعملوه فاعملوه في عين حراسة الله، لأن الله يرانا.
هذه أمثولة مدرسة الأخ اسطفان، كما كانت في دير كفيفان حياة نعمة الله وحياة شربل أمثولة ومدرسة حياة لنا جميعاً، وستبقى هذه المدرسة حيّة في قلوبنا وفي عائلاتنا.
ما نتعلّمه اليوم من مدرسة الأخ اسطفان ومن مدرسة الرهبانية:
أولاً، أن نسمع صوت الله؛ وكي نسمع صوت الله علينا أن نكون في حالة إصغاء؛ وكي نكون في حالة إصغاء علينا أن نرغب لبعض الوقت بالابتعاد عن هموم العالم للصلاة.
ثانياً، أن القديسين عاشوا في عائلات قديسة. وعائلاتنا اليوم مدعوة إلى أن تعود إلى عيش القيم التي هي في أساس روحانيتنا ومسيرة كنيستنا المارونية على هذه الأرض المقدسة.
عودوا إلى الصلاة، إجمعوا أولادكم، يا أيها الآباء والأمهات، للصلاة. إقطعوا كل علاقة مع الدنيا، ولو للحظات كل يوم، لتجتمعوا للصلاة.
ثالثاً، ما نتعلمه من مدرسة الأخ اسطفان أن كل ما نعمله، نعمله تحت نظر الرب، لأنه يرانا.
هذا هو جوهر عيشنا المسيحي، لا أن نحفظ الوصايا بل أن نعيشها في التزام يومي في خدمة المحبة دون طلب المقابل، علماً أن الله يرانا في كل ما نعمل وهو الذي يعطينا الحياة الأبدية نصيباً لنا بعد أن نعبر من هذه الحياة الدنيا الفانية.
صلاتي معكم اليوم، ومع إخوتي الكهنة والرهبان والراهبات، ومع الآباء والأمهات ومع جميع عائلاتنا، من أجل أن يكون بين أبنائنا وبناتنا من يلبّون دعوة الله إلى القداسة في الحياة الرهبانية أو الكهنوتية وفي الحياة الزوجية، وفي الحياة الإجتماعية. فدعوة الله موجهة إلينا جميعاً وعلينا أن نلبيها كل واحد بما دعاه الله إليه. ونكون نحن أيضاً على طريق القداسة، ونستطيع أن نكون نحن أيضاً قديسين. آمين.