عظة المطران منير خيرالله
في قداس البحر السنوي- البترون
الأحد 30 حزيران 2013
« إبتعدوا إلى العمق، وألقوا شباككم للصيد» (لوقا 5/1-5).
نلتقي اليوم على شاطئ البترون، كعادتنا كل سنة، لنحتفل بقداس البحر؛ وقد أصبح تقليداً سنوياً منذ أن افتتحته حركة فرسان العذراء مع مؤسسها الخوري فرنسيس البيسري في مطلع الستينيات من القرن الماضي. وفي القداس هذا نذكر جميع إخوتنا وأبنائنا الذين قضوا في البحر وهم من سلالة البترونيين الذين تعوّدوا حبّ المغامرة وركوب البحر والغوص في أعماقه؛ وآخرهم ألبير عسّال الغطّاس الماهر الذي قضى في سقوط الطائرة الأثيوبية منذ ثلاث سنوات، وكان له، بين عمق البحر وقمة السماء، مغامرةُ حبّ وتضحية وعطاء أصبحت أمثولة للبترون وللبنان.
شهداؤنا هؤلاء سبقونا إلى ملاقاة رب الحياة في غوصهم إلى أعماق سرّ الله، الحبّ اللامتناهي، بعد أن خاضوا مغامرة الغوص في أعماق البحر من أجل كسب عيش حرٍّ وكريم. ومن هناك ينادوننا ويحثّوننا على خوض المغامرة مع المسيح من دون خوف أو تردّد، تشبّهاً بسمعان بطرس وإخوته الرسل الذين أطاعوا أمر يسوع المسيح بأن يبتعدوا إلى العمق ويلقوا شباكهم للصيد؛ وأصبحوا بإيمانهم وثقتهم بالرب صيادين للبشر في كل مكان من هذا العالم.
سمعنا في إنجيل اليوم كيف يروي القديس لوقا دعوة يسوع لسمعان وشركائه الصيادين على شاطئ بحيرة طبريّا. شرع يسوع « يعلّم الجموع من السفينة. ولما فرغ من كلامه، قال لسمعان: إبتعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد. فأجاب سمعان بعفويته المعهودة: يا معلّم، لقد تعبنا الليل كلّه ولم نُصِبْ شيئاً؛ ولكن بناءً على كلمتك سألقي الشباك. وفعلوا فأصابوا من السمك شيئاً كثيراً جداً، وكادت شباكهم تتمزق».
هذه المغامرة الناجحة وهذا الصيد العجائبي كانا نتيجة الثقة التي وضعها سمعان بالرب والمعلّم يسوع المسيح، إذ إنه كان متأكداً أنه لن يخيب. ابتعد بسفينته إلى العمق وألقى الشباك وعاد بها إلى شاطئ الأمان ممتلئة سمكاً وقلبُه مفعم فرحاً ولسانه يهلّل شكراً وتسبيحاً للرب الذي هو سيد البحر والأرض والسماء وهذا ما قاده في ما بعد إلى الاعتراف به أمام الجميع قائلاً: « أنت هو المسيح ابن الله الحيّ. فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا... أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها» (متى 16/16-18).
من السفينة ومن البحر دعا يسوع تلاميذه الأولين وبدأ يؤسس كنيسته على إيمان سمعان بطرس وثقته. ومنذ ذلك الوقت أبحرت السفينة- الكنيسة في بحر هذا العالم الهائج وراحت تصطاد البشر من كل جنسٍ وعرقٍ ولون ودين ومذهب وهويّة وثقافة.
وها نحن اليوم، بعد ألفي سنة، نشهد لثبات الكنيسة في رسالتها بفضل إيمان وثقة خلفاء بطرس والرسل وشعب الله من حولهم.
وها نحن، ومن على هذه السفينة الراسية على شاطئ البترون، نسمع يسوع يقول لنا: إبتعدوا إلى العمق ولا تخافوا الغرق. ثِقوا بي وخوضوا المغامرة، وها أنا معكم إلى منتهى الدهر. آباؤكم وأجدادكم كانوا يجيدون المغامرة والغوص إلى العمق، حتى ولو كلفّهم ذلك بذل حياتهم، لكنهم ينعمون في السماء بالحياة الأبدية وهم باقون في قلوبكم مثالاً وقدوةً.
لكننا في ضعفنا ويأسنا نقول ليسوع: لقد تعبنا سنوات طويلة ولم نُصبْ سوى الحروب والويلات والاضطهادات. ألا ترى يا يسوع أننا اليوم نُبحر في بحرٍ شديد الاضطراب وأننا نكاد نغرق ؟
ألا ترى يا يسوع أننا نعيش في مجتمع يقف على شفير الهاوية جرّاء الفشل السياسي والانحطاط الأخلاقي وأصبح فريسةً للشيطان والمافيات التي تعتنق الفساد والغش والبرطيل وسيلة للتحكّم بالسلطة ؟ ألا ترى يا يسوع أن وطننا لبنان، «الوطن الرسالة» و«الوطن النموذج»، يتهاوى ويكاد يفقد مصداقيته تجاه معظم دول العالم التي آمنت بفرادته ونموذجيته ؟
يا أبناء وبنات البترون، يا شبابنا وصبايانا، يا إخوتنا اللبنانيين.
بالرغم من كل ما تعانون، وبالرغم من كل العواصف والأمواج التي تضرب سفينتكم، ندعوكم اليوم إلى الإطمئنان على مصيركم وعلى مصير كنيستكم ووطنكم. ونحن واثقون من كلامنا، لأن سيدنا وربنا يسوع المسيح هو سيدُ البحر، يأمر الرياح والعواصف فتطيعه ويحدث هدوء عظيم. المسيح حاضر معنا. إنه يبحر معنا في السفينة، إنها كنيستُه، حتى ولو بدا نائماً في مؤخرتها. إنه يزجرنا ويصرخ بنا قائلاً: « ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان ؟» (متى 8/26). ثقوا، أنا هو، لا تخافوا.
الأمواج والعواصف تضرب سطح البحر، ولكنها لا تهزّ عمقه !
تعالوا إذاً نبتعد إلى العمق بسفينتنا التي تمثل كنيستنا ووطننا، فنتخلّى عن تفاهاتنا الصغيرة ومهاتراتنا وحملاتنا الإعلامية. تعالوا نتصالح ونتوحّد ونكتف الأيدي من أجل الحفاظ على رسالة كنيستنا وإعادة بناء وطننا في دعوته التاريخية.
تعالوا نجدّد إيماننا بلبنان، هذا الوطن الذي ضحّى آباؤنا وأجدادنا، مسيحيون ومسلمون، في سبيل بنائه وطناً رسالة، وعلى رأسهم البطريرك العظيم الياس الحويك الذي انتدبوه بالإجماع من أجل إرساء استقلاله وسيادته وحريته.
يا شبابنا وصبايانا ويا أجيالنا الطالعة،
المرحلة التي نمرّ بها اليوم هي بمثابة أمواج البحر العابرة. وعندما يعود الهدوء تكونون أنتم أبطالَ العهد الجديد، تعيشون معاً بحرية وكرامة وانفتاح واحترام.