عظة المطران خيرالله
في قداس وضع الحجر الأساسي لمشروع « بيت رفقا»
دير مار يوسف جربتا
الأحد 27/10/2013
« كل ما صنعتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي أنا قد صنعتموه» (متى 25/40)
أصحاب السيادة المطران بولس آميل سعاده والمطران يوسف ضرغام، والمطران دومنيك لو برون راعي أبرشية سانت إتيان الفرنسية التي هي في توأمة مع أبرشية البترون
معالي الوزير جبران باسيل
حضرة ممثلي أصحاب السعادة النواب
الفعاليات البلدية والإختيارية والمدنية والعسكرية
إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات
أحبائي جميعاً.
في الأحد الأخير من السنة الطقسية، عيد المسيح الملك، تدعونا الكنيسة الى التأمل
بالدينونة العامة التي تنتظرنا جميعاً والتي سيديننا فيها ابن الإنسان في مجده على أعمال المحبة التي نكون قمنا بها أو لم نقم بها خلال حياتنا على الأرض.
وبعد أن احتفلنا البارحة في جامعة العائلة المقدسة البترون بافتتاح المجمع الأبرشي الذي سنسير فيه معاً نحو تجدّدنا الروحي وتجدّد أشخاصنا ومؤسساتنا،
يسرّنا أن نحتفل اليوم في دير مار يوسف جربتا، حيث ضريح القديسة رفقا، بوضع الحجر الأساس لمشروع « بيت رفقا» لاستقبال المسنّين؛ وقد أراده الأستاذ سليم الزير، إبن هذه المنطقة وهذه الأرض المقدسة، ومن معه من أصحاب الأيادي الخيّرة، مشروعاً إنسانياً رائداً من الطراز الحديث جداً.
وهو مشروع يتلاءم تماماً مع تعاليم السيد المسيح في الإنجيل وتعاليم الكنيسة في ما يتعلق بخدمة المحبة والخدمة الإجتماعية التي هي من مسؤولية كل مؤمن معمّد باسم الآب والابن والروح القدس.
فالسيد المسيح، في إنجيل اليوم، يعلّمنا:
أولاً، أن دينونةً تنتظرنا، ولا أحد يفلت منها؛
ثانياً، أن مقياس الدينونة هو المحبة؛
ثالثاً، أن أعمال المحبة التي نصنعها مع أحد إخوة يسوع نكون نصنعها مع شخصه بالذات.
أولاً، إن يسوع المسيح الملك سيجيء في مجده وتُجمع لديه جميع الأمم من دون استثناء. هو الملك المطلق الصلاحية ويحكم بالعدل والمحبة؛ ويميّز بين البشر بمقياس المحبة، فيضع الخراف - أي أصحاب الأعمال الخيّرة - عن يمينه، ويضع الجداء - أي الذين صمّوا آذانهم وأغمضوا عيونهم عن سماع صوت الاستغاثة ونداء المحبة - عن شماله. ويبدأ يدينهم، كل واحد بحسب أعماله.
ثانياً، مقياس الدينونة هو المحبة. فيبدأ يقول للذين عن يمينه:« تعالوا يا من باركهم أبي فرثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعُدتموني، وسجيناً فزرتموني». وذلك لأنكم « كل ما صنعتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار المحتاجين الى محبة، فلي أنا قد صنعتموه». أما الذين لم يصنعوا ذلك فيقول لهم:« إبتعدوا عني أيها الملاعين الى النار الأبدية المعدّة لإبليس وجنوده».
ثالثاً، نفهم إذاً أن المسيح متجسّد في كل واحد منا، وبخاصة في أولئك الذين هم في حاجة الى محبة، الجائع والعطشان والغريب والعريان والمريض والسجين والمنبوذ والمظلوم في حريته وكرامته، إلخ. لأن كل ما نصنعه مع أحد هؤلاء نكون نصنعه مع المسيح بالذات.
هل نريد أن نفهم هذا المنطق؟ وأن كل واحد منا هو يسوع المسيح بالذات؟
وإذا فهمنا ذلك تتغيّر ذهنياتنا وتنقلب مقاييسنا البشرية ونتبنى منطق المسيح الوحيد، منطق المحبة. ونفهم أننا لن نأخذ معنا شيئا من هذه الدنيا سوى أعمالنا نُدان عليها.
ساعتئذٍ نفتح عيوننا وآذاننا لنرى مِن حولِنا مَن هم بحاجة الى محبة، والمحبة لا تعني فقط المساعدة المادية، ونسمع صوت ندائهم باسم المسيح، فنهبّ إلى مساعدتهم قناعةً منا أن كل واحد منهم هو المسيح بالذات.
فَهِمَ القديس بولس هذا المنطق الجديد ودعا أهل روما، في رسالة اليوم، كما يدعونا جميعاً، الى عيش المحبة الأخوية والصادقة والى التنافس في أعمال الرحمة: « كونوا في الاجتهاد غير متكاسلين، وبالروح حارّين، وللرب عابدين، وفي الضيق ثابتين، وعلى الصلاة مواظبين، وفي حاجات القديسين مشاركين، والى ضيافة الغرباء ساعين... إفرحوا مع الفرحين وابكوا مع الباكين». (روما 12/9-10). إخوة يسوع الصغار هم القديسون، بالنسبة الى بولس، حتى ولو كانوا أعداء ومضطهِّدين!
وفهمت الكنيسة أيضاً هذا المنطق وراحت تعمل على هدم الجدران والحواجز التي تفصل بين الأشخاص والمؤسسات لتتكامل في خدمة وتقديم المساعدة والعون الى من هم في أكثر حاجة.
من هنا يدعونا الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي « رجاء جديد للبنان» الى «متابعة أعمال التضامن والمشاركة في ما بيننا وتنشيطها في كل مجالات الحياة الاجتماعية، مؤكدين المبدأ القائل بأن خيرات الأرض معدّة للجميع وأن للذين لا شيء عندهم حق الافضلية» (عدد 102).
ويقول لنا البابا بنديكتوس السادس عشر في إرشاده الرسولي « الكنيسة في الشرق الأوسط - شركة وشهادة»: «إن يسوع المسيح جعل نفسه قريباً من الأشدّ ضعفاً. وباتّباع مثله، تعمل الكنيسة في خدمة استقبال الأطفال المتروكين والأيتام، وفي خدمة الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة والمرضى والمسنّين، كي تكون على الدوام أكثر تفاعلاً في المجتمع الإنساني. وتؤمن الكنيسة بالكرامة غير القابلة للجدل لكل شخص بشري، وتعبد الله الخالق والآب من خلال خدمة خليقته المحتاجة عبر مساعدتها مادياً وروحياً» (عدد 90).
وتُعلّمنا كنيستنا المارونية في مجمعها البطريركي، الذي احتفلنا البارحة بافتتاح مجمعنا الأبرشي لتطبيقه: « إن الإنسان لا يستطيع أن ينمو ويحقق دعوته إلا من خلال العلاقة مع الآخرين، والعلاقة بالآخرين أساسها المحبة، محبة الله ومحبة القريب. والكنيسة تسعى الى تجسيد هذه المحبة في الأرض بين أبناء البشر، لأن رسالتها تكمن في أنسنة هذا الكون بشراً وطبيعةً ومقدرات، وفي الدعوة الى العمل في سبيل بناء حضارة المحبة في هذا العالم» (النص20، عدد 2).
أصحاب مشروع بيت رفقا هم من الذين فهموا منطق المسيح، ويعملون بتعاليم الكنيسة، ويريدون، بالتعاون مع راهبات هذا الدير أخوات رفقا، أن يعملوا على تطبيقها في استقبال الإخوة المسنّين وتأمين عيش كريم لهم في ظلّ ضريح القديسة رفقا وبشفاعتها.
ألا بارككم الله، وباركنا جميعاً، نحن أبناء البترون، أبرشية القداسة والقديسين، بشفاعة العذراء مريم سيدة لبنان ومار مارون ومار يوحنا مارون والقديسة رفقا، وجعلنا نلبّي دعوته الى القداسة في أعمال المحبة؛ « فتكون محبتنا لا بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق» (يوحنا3/18). آمين.