عظة المطران خيرالله
في قداس افتتاح السنة الكشفية- فوج حرف أرده- كشافة لبنان
الأحد 19/1/2014، كنيسة مار شربل- حرف أرده
« إبتعدوا إلى العمق وألقوا شباككم للصيد» (لوقا 5/4).
قدس النائب العام المونسنيور بطرس جبور، ممثلاً سيادة راعي الأبرشية المطران جورج بو جوده،
حضرة الخوري يوسف جنيد، خادم هذه الرعية الحبيبة،
إخوتي الكهنة،
حضرة رئيس البلدية السيد جورج نعوم،
حضرة العميد الصديق سركيس تادروس،
أحبائي أبناء وبنات حرف أرده،
إخوتي القادة والكشافة.
اختار يسوع، أول من اختار رسلاً له، صيادي سمك: سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا... على شاطئ بحيرة طبرّيا. وقال لهم: « إتبعوني؛ سأجعل منكم صيادي بشر».
اختار يسوع البحّارة لأنهم رجال يحبّون المغامرة ويجيدونها، ولأنهم مستعدّون أن يتخلّوا عن كل شيء في سبيل خوضها. يتركون كل ما عندهم على الأرض ويركبون سفينتهم ويبتعدون إلى العمق ليلقوا شباكهم. يعرفون أنهم سيتعبون كثيراً ليصطادوا قليلاً.
قال لهم يسوع في تلك الليلة بعد أن رأى خيبتهم: « إبتعدوا إلى العمق وألقوا شباككم للصيد». فقال له سمعان بطرس: « يا معلّم لقد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئاً. ولكن بناءً على كلمتك سألقي الشبكة». (لوقا 5/1-11).
إنهم رجال مغامرة ورجال ثقة. قبلوا المغامرة مع يسوع، وذهبوا إلى العمق، عمق البحر وعمق البشرية، وتحمّلوا التعب والخيبة والفشل والاضطهاد لأنهم كانوا واثقين ثقة كاملة بيسوع المسيح الذي قال لهم: « بدوني لا تستطيعون شيئاً». (يوحنا 15/5)؛ و « ستعانون الشدة والإضطهاد في العالم، لكن ثقوا أنا غلبت العالم» (يوحنا 16/23).
وضعوا ثقتهم بيسوع المعلّم لأنهم اقتنعوا بكلامه ومثل حياته. إنه المغامر الأعظم. هو الذي غامر بأن تخلّى عن ألوهيته ليصير إنساناً مثلنا ويحمل إنسانيتنا الضعيفة الخاضعة لعبودية الخطيئة حتى الموت على الصليب لكي يحرّرنا ويفتدينا بقيامته ويعيد إلينا رونق الخلق الأول فنصبح أبناءً جدداً لله الآب.
إخوتي أبناء حرف أرده،
أنتم أولاً أبناء مارون، هذا القديس الناسك والكاهن الذي ارتضى أن يخوض المغامرة مع يسوع مثل الرسل. فترك كل شيء في هذه الدنيا وراح يعيش تكرّسه لله على قمة جبل قورش في الصلاة والتضرّع إلى الله والصوم والتقشف والعمل في الأرض. وكذلك فعل تلاميذه وشعبه من بعده على مدى أجيال على قمم جبال لبنان أو في قعر وديانه لكي يحافظوا على حريتهم وكرامتهم في عيش مقوّمات الحياة النسكية في الصوم والصلاة والتقشف والوقوف المستمرّ والعمل في الأرض. وهكذا جابهوا تحديات العالم من حروب واضطهادات ومِحَن بإيمان كبير وثقة كاملة بمعلّمهم الإلهي يسوع المسيح. أبوا إلا أن يبقوا واقفين كي لا يرتخوا فيرضخوا فيُستعبَدوا ! ومع إخوتهم المسيحيين والمسلمين خاضوا مغامرة فريدة ومميزة، ألا وهي بناء لبنان الكيان والدولة والوطن الرسالة في الانفتاح والعيش الواحد المشترك وفي الاحترام المتبادل لتعدّدية الطوائف والأديان والحضارات والثقافات.
وأنتم ثانياً أبناء جمعية كشافة لبنان؛ تحملون بفخر تراثها التربوي والإنساني والوطني. فالكشفية هي مدرسة في التربية للأجيال الطالعة ومسؤولة عن تربية مؤمنين ملتزمين بخدمة ربهم وكنيستهم، ومواطنين صالحين ملتزمين بخدمة وطنهم. وتهدف الروح الكشفية إلى تربية الإنسان بكلّيته من النواحي الدينية والروحية والجسدية والإجتماعية والثقافية، وإلى تنشئة مغامرين. وفي التربية الكشفية، لا يكتفي الولد بقراءة المغامرات، بل بعيشها أيضاً، كما كان يقول مؤسس الكشفية في العالم اللورد بادن باول الذي اتخذ من الخدمة شعاراً له ومن البوصلة دليلاً لخوض المغامرات. فكان يردّد:
« إن البوصلة هي الأداة التي اشترشد بها البحّارة في غابر الزمان واهتدوا إلى طريقهم عبر البحار. فلتكن كذلك البوصلة بالنسبة إلينا أداة استرشاد في حياتنا. إنها بمثابة الصليب الذي يدلّ جميع المسيحيين على الطريق. لكنه أيضاً صليب متعدد الأذرع الممتدة تعانق جميع الناس من مختلف الديانات».
لقد احتفلنا، نحن كشافة لبنان، منذ بضعة أسابيع بعيدنا الخامس والسبعين في بكركي، مع البطريرك السابع والسبعين في سلسلة بطاركتنا العظام على خطى مار مارون ومار يوحنا مارون، وتذكّرنا كبارنا المؤسسين وجدّدنا وعدَنا بأن نخدم الله والكنيسة والوطن بصدق وتضحية وإخلاص.
نحن مدعوون إذاً إلى تجديد التزامنا بخوض المغامرة مع يسوع، مثالِنا الأعلى والأوحد وبوصلتِنا الوحيدة إلى الملكوت، على خطى من سبقنا من آباء وأمهات قديسين ومن قَادة كشفيين ضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل خدمة ربّهم وكنيستهم ووطنهم لبنان.
نحن مدعوون إلى أن نغوص إلى العمق، عمق بحر هذا العالم الهائج وعمق الإنسانية؛ إلى أن نغامر ونخاطر ونتحدّى العواصف والأمواج لنصل إلى العمق؛ لأن العمق هو نقيض الشاطئ الفايش والسطحية؛ ولأن العمق لا تضربه الأمواج ولا يصل إليه هيجان البحر؛ ولأننا في العمق نلتقي الله الخالق والأب ونكتشف سرّ محبته اللامتناهية ورحمته اللامحدودة.
نحن مدعوون إلى أن نتخلّى عن كل ما يربطنا ويكبّلنا بالأرض اليابسة ونركب السفينة مع يسوع من دون أن نلتفت إلى الوراء. فالسفينة- الكنيسة هي وسيلة عبورنا من الشاطئ إلى العمق، ومن الجمود إلى المغامرة، ومن العبودية إلى الحرية، ومن الخوف إلى الطمأنينة، ومن الموت إلى الحياة.
نحن مدعوون إلى أن نتحرّر بالروح القدس فنصبح أنبياء الحق، والحق هو الله وحده، ونرفض الباطل والذل والاستسلام، ونتخطّى الخوف واليأس اللذين يدخلان إلى قلوبنا. فننطلق إلى هدم الحواجز التي تعيق التلاقي في ما بيننا وإلى تحرير ذواتنا وشعبنا وأرضنا. فرجال المغامرة لا يستزلمون ولا يستسلمون ولا يفتشون عن الحلول السهلة. إنهم رجال أحرار. تحرّروا ليغامروا. وحده الحرّ يغامر.
تعالوا نعود إذاً إلى جذور دعوتنا المسيحية والمارونية والكشفية، وإلى ينبوعها الأوحد يسوع المسيح لنشرب منه، لأن عنده ماء الحياة الأبدية.
تعالوا نجدّد التزامنا بعيش شعارنا الكشفي، أي أن نعطي بدون حساب وأن نكون دوماً مستعدين للخدمة، خدمة الله والكنيسة والوطن.
تعالوا نرسم معاً خارطة طريق المرحلة المقبلة التي تحمل، لنا ولوطننا ولبلداننا في الشرق الأوسط، استحقاقات كبيرة وتحديات خطيرة في ما يتعلق بحضورنا ودورنا ورسالتنا.
تعالوا نجدّد إيماننا بربنا وثقتنا بوطننا لبنان. فلبنان ليس من التاريخ، بل هو رسالة دائمة للعالم كله في الحرية والكرامة والعيش الواحد. علينا فقط أن نواجه التحديات ونحن واقفون ومتمسكون بقيمنا المسيحية والوطنية ريثما تعبر أمواج الشر والتعصب والتطرّف، فنعيد بناءه متضامنين وموحدين، مسيحيين ومسلمين. آمين.