عظة المطران خيرالله في عيد مار مارون في كفرحي 9-2-2014

عظة المطران منير خيرالله

في احتفال عيد مار مارون، في الكرسي الأسقفي- كفرحي

الأحد 9 شباط 2014

 

« إن حبة الحنطة إن لم تقع وتمت في الارض تبقى مفردة، وإن ماتت تأتي بثمار كثيرة ».

 

صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده مرمِّم هذا الدير معيداً إليه بهاءه ورونقه،

قدس المونسنيور بطرس (خليل) النائب العام،

حضرة الخوري بيار (صعب) القيّم الأبرشي،

إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات،

أحبائي أبناء وبنات مارون.

ما رأيك يا مار مارون لو عدتَ اليوم بعد ألف وستماية سنة لتفتقد أبناءك وشعبك وكنيستك؟ هل تقف وتتأمل ما آلت إليه شؤونهم وقد عانوا ما عانوا من الحروب والتهجير والهجرة وهم منتشرون اليوم في أربعة أقطار العالم ؟ أم أنك تفهم وضعهم وتشجعهم ليقلعوا عن يأسهم فتدعوهم للعودة إلى أصالة رسالتهم الأنطاكية التي تقوم على الإنفتاح والوساطة والتحرّر، وللنهوض بدورهم الرائد ثقافياً وإجتماعياً وسياسياً ؟

كل ما نعرف عن مارون أنه عاش في كنيسة أنطاكية من سنة 350 حتى سنة 410، وأنه كان ناسكاً وكاهناً. ترك كل شيء في هذه الدنيا ونذر نفسه للسيد المسيح. فتسلّق قمة جبل في منطقة قورش حيث يوجد هيكل للوثنيين وحوّله معبداً لله. عاش في العراء وراح يقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي عاش عليها. أعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية. فتقاطر إليه الناس وتتلمذ الكثيرون على يده. وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضعها، والتي تتميّز: بالعيش في العراء وعلى قمم الجبال، وبالوقوف المستمرّ، وبالصلاة المتواصلة والسهر والصمت العميق، وبالتقشف وقهر الذات، وبالعمل في الأرض واستثمارها والعيش منها.

ثم راحوا يهجرون منطقة قورش وأنطاكيه، منذ سنة 410، قاصدين جبال لبنان من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الوثنيين ودعوتهم إلى الإيمان بالله وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار. وعمدوا إلى بناء الأديرة وجعلها منارة لنشر الحياة المسيحية والثقافة والعِلم.

وبعد أن تجمّع أبناء مارون وتنظّموا في جبال لبنان، أسّسوا كنيسة بطريركية مع يوحنا مارون وحافظوا على روحانيّتهم النسكيّة وعلى ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب وعلى حريتهم واستقلاليتهم ضمن الامبراطورية العربية والإسلامية.

فعاشوا في العراء على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشقّ العذابات في سبيل الحفاظ على حرّيتهم. عاشوا دائماً واقفين ومستعدين لملاقاة ربهم بالصلاة والصوم والتقشف والسهر. وكلما كانت تشتدّ عليهم المحن، كانوا يتوّكأون على عصيّهم الخشبية كي لا يرضخوا فيرتخوا فيُستعبدوا! وعملوا في الأرض الوعرة والصخرية وحوّلوها إلى جنّات وتمسكوا بها وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم.

عملوا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتين المعنيّة والشهابية، وكانوا روّاد النهضة العربية. وراحت هذه الذاتية تتبلور فكرياً وثقافياً وإجتماعياً وسياسياً في بداية القرن العشرين، إلى أن حصل اللبنانيون على إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 مع ابن هذه المنطقة البطريرك الكبير الياس الحويك، دولةً تحترم تعدّدية الطوائف والمذاهب وتحافظ على حريتهم وحقّهم في الحياة الكريمة.

وتابعوا مسيرتهم في رفع التحدّي الكبير إلى أن حصلوا سنة 1943 على استقلال دولة لبنان «دولة مستقّلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة»، كما كانت تنصّ المادة الأولى من الدستور.

ولم يكتفوا بوضع الدستور، بل عملوا معاً، مسيحيّين ومسلمين، وراء رئيس الجمهورية بشاره الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، على وضع المثياق الوطني الذي كرّس لبنان وطناً سيداً حرّاً مستقلاً، والذي يستند إلى خمس نقاط:

1-  استقلال تامّ وناجز تجاه كل دول الشّرق والغرب.

2-  لا وصاية ولا حماية ولا امتياز ولا مركز ممتاز لأي دولة كانت.

3-  التعاون إلى أقصى الحدود مع الدول العربية الشقيقة.

4-  لا وحدة ولا اتّحاد مع أيّة دولة كانت.

5-  الصداقة مع كلّ الدول التي تعترف باستقلالنا الكامل وتحترمه.

وهذا ما ذكّر به صاحب الغبطة والنيافة مار بشاره بطرس الراعي في المذكرة الوطنية التي أعلنها من بكركي منذ بضعة أيام.

أما اليوم، وفيما أبناءُ مارون يعيّدون لأبيهم الروحي وهم منتشرون في العالم كله، وفيما إخوتهم المسيحيّون العرب يعانون من هجرة قاسية « تُعرِّضُ العالمَ العربي لنزيف بشري وإجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي على جانب كبير من الخطورة»، كما نبّه الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود منذ اثنتي عشرة سنة بالتمام في كلمة كتبها في جريدة النهار اللبنانية في 29/1/2002، نتساءل إلى أين المصير؟

الكوارث التاريخية تحصل اليوم في بلداننا العربيّة والشرق أوسطية: في سوريا ولبنان والعراق ومصر وفلسطين. فهل نبقى متفرجين؟ ما هو دورنا إذاً ؟

إنطلاقاً من روحانيتنا النسكية ومن ثوابت تاريخنا:

علينا أولاً أن نعود الى عبادة الله بإيمان وثقة، والى الاصغاء الى كلمته وسماع صوته يدعونا الى فعل توبة صادق، فنتغلب على الخوف والقلق اللذين يسكنان فينا، وننطلق بحرية وجرأة ورجاء في رسالة أممية متجددة.

علينا ثانياً أن نتبنى موقف الحق الذي لا يساوم ولا يراوغ، فنكون أنبياء لا جبناء، نرفع الصوت عالياً في وجه فاعلي الشر، للدفاع عن حق كل إنسان في عيش كريم، وعن الشعوب في تقرير مصيرها.

علينا ثالثاً أن نتمسك بأرضنا المقدسة. إنها الأرض التي اختارها إبن الله ربنا يسوع المسيح، ليدخل من خلالها في التاريخ والجغرافيا، فيولد فيها إنسانا ويعيش عليها ويموت عليها مصلوباً، فداءً عن جميع البشر وحبّاً بهم.

علينا أخيراً أن نبقى حلقة وصل واتصال، وقيمةً ثقافية وحضارية لشعوبنا ولبلداننا، فنعمل مع إخوتنا المسلمين، كما عملنا طيلة مئات السنوات، على إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخية، أي الوطن الرسالة في الحرية والعيش الواحد المشترك، في احترام تعددية الطوائف والأديان والحضارات والثقافات، وأن نعمِّم هذه الخبرة على مجتمعاتنا التي تسعى الى ربيعٍ لها في الحرية والديموقراطية.

إننا نجدّد اليوم، كأبناء مارون وككنيسة مارونيّة وعلى رأسها البطريرك مار بشاره بطرس الراعي، انتماءنا إلى كنيستنا الأنطاكية وإلى محيطنا الطبيعي في العالمَين العربي والإسلامي، ونجدّد ولاءَنا لأوطاننا ونحن فيها مواطنون أصليّون، ونؤكّد أننا ننشد الحرية لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعددية الدينية والثقافية والحضارية التي تميّزنا، ونجدّد انفتاحنا على الغرب وثقافته واتحادَنا مع الكنيسة الرومانية الممثلة بالكرسي البطرسي وبالجالس عليه اليوم البابا فرنسيس.

نتضرع إليك يا الله ونرفع صلواتنا طالبين، بشفاعة مريم والدة الإله وجميع قديسينا، أن يكون عيد مار مارون انتصاراً للمحبة والأخوّة والسلام في سوريا ولبنان والعراق ومصر وفلسطين وكل بلداننا العربية والشرق أوسطية.

ونحن لسنا خائفين لأنك معنا يا رب باقٍ الى أبد الآبدين . آمين.

Photo Gallery