عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار يوحنا مارون
الأحد 2/3/2014- دير مار يوحنا مارون- الكرسي الأسقفي- كفرحي.
« أنتم ملح الأرض، فإذا فَسَد الملح، فأي شيء يملّحه» (متى 5/13).
صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده السامي الإحترام،
إخوتي الكهنة،
أحبائي أبناء وبنات أبرشية البترون،
أصدقاءنا زوار هذا الدير.
منذ سنة بالتمام، كنا مجتمعين هنا حول غبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الكلّي الطوبى لنحتفل معاً بعيد مار يوحنا مارون البطريرك الأول وشفيع أبرشيتنا والذي كان ملحَ كنيستنا وأرضنا ونور شرقنا.
ومن هنا، وفي المناسبة ذاتها، أعلنتُ عن الدعوة الى عقد مجمع أبرشي، سمّاه البطريرك الراعي « ربيع الأبرشية»، يهدف الى التجدّد ويعمل على تطبيق المجمع البطريركي الماروني الذي وضع خارطة الطريق لتجدّد كنيستنا. وأطلقتُ رسالتي الراعوية الاولى« خدمة ومحبة».
وبدأنا معاً المسيرة المجمعية بمرحلة التحضير التي تكلّلت في ٢٦ تشرين الاول ٢٠١٣ بجلسة افتتاح المجمع في جامعة العائلة المقدسة في البترون، واتخذنا فيها شعاراً لنا: «على خطى مار يوحنا مارون: نتجدّد ونتقدس بالمسيح».
وبعدها انطلق العمل في اللجان مع الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين والحركات والمنظمات الرسولية في الرعايا والأديار.
وهدفنا من العمل المجمعي أن نسير معاً، إكليريكيين وعلمانيين، كلٌ بحسب ما أعطاه الله من مواهب ونِعم، وأن نفكر معاً ونصلي معاً ونعيش معاً خبرة مجمعية كنسية مميزة ورائدة؛ ونتحمّل معاً مسؤوليتنا المشتركة التي تعني أننا جميعاً، كمعمّدين ، شركاء في عيش الإيمان وحمل بشارة الخلاص ورسالة الكنيسة، إذ نشارك بكهنوت المسيح وبرسالته الخلاصية بين البشر.
فيشدّنا العمل المجمعي هذا الى التجدّد بالعودة الى روحانية الآباء المؤسسين، مار مارون وتلاميذه ومار يوحنا مارون، والى جذورنا الأنطاكية السريانية، ويوطّد تعلّقنا بشخص البطريرك وبالمؤسسة البطريركية وبلبنان منشأ كنيستنا وأرض القديسين والوطن الرسالة. ويُطلقنا في دينامية التجدّد الروحي والكنسي والمؤسساتي.
ونحن في أبرشية البترون مدعوون بشكل خاص الى عيش هذا التجدد لأننا مؤتمنون على أبرشية مار يوحنا مارون التي منها انطلقت الكنيسة البطريركية والتي تحتضن ذخائر وضرائح القديسين في كفرحي وجربتا وكفيفان وعبرين، ومدعوون الى أن نكون الملح الجيد في أرضنا المقدسة.
وفيما نحتفل اليوم بعيد مؤسس كنيستنا ورأسها نتطلّع الى أبينا مار يوحنا مارون لنقتدي بسيرته وفضائله ونمشي على خطاه لنتجدّد ونتقدس.
تقدّس يوحنا مارون بعيشه الإنجيل وروحانية مار مارون النسكية.
أولاً شاباً في أنطاكيه والقسطنطينية حيث حصّل العلوم. ثانياً كاهناً في أنطاكيه وراهباً في دير مارون على العاصي. وثالثاً أسقفاً على البترون متفانياً في خدمة شعب مارون وجمعِ شمله. ورابعاً بطريركاً مؤسِّساً جسّد وجه المسيح الراعي الصالح، جاعلاً من دير مار مارون في كفرحي مقرّه البطريركي وناقلاً إليه هامة مار مارون.
أثبت قداستَه البابا بنديكتوس الرابع عشر سنة 1735. ومنح بعده البابا بيوس السابع سنة 1820 غفراناً كاملاً للذين يزورون كنيسة دير مار يوحنا مارون هنا في كفرحي للتبرّك في يوم عيده؛ وكان الدير قد تحوّل الى مدرسة إكليريكية، هي الثانية في لبنان بعد مدرسة عين ورقه (1789)؛ هذا إذا ما استثنينا مدرسة حوقا في قنوبين التي تأسست سنة 1624 ولم تعِشْ سوى تسع سنوات.
انطلق يوحنا مارون من هنا ليؤسس الكنيسة البطريركية في قلب أنطاكيه، وليؤكّد في انطلاقته التأسيسية أن المارونية منذ نشأتها هي حركة تجديدية في كنيسة أنطاكيه.
هو الذي ثبّت الكنيسة المارونية على عقيدة الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية في الدفاع عن إيمان مجمع خلقيدونيه. وهو الذي جعلها أمّة مستقلة حول رأسها البطريرك ضمن نطاق الدولة الإسلامية. وتطورت هذه الاستقلالية مع الزمن في جبل لبنان بفضل خلفائه، وأهمهم البطاركة العمشيتي وحجولا والرزي واسطفان الدويهي. وتوصل الموارنة مع إخوتهم المسيحيين والدروز والمسلمين الى تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتين المعنية والشهابية. وراحت تتبلور فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً في بداية القرن العشرين، الى أن تجسّدت في دولة لبنان الكبير مع البطريرك الياس الحويك، وفي الجمهورية اللبنانية مع البطريرك أنطون عريضه بمساعي الرئيسين بشاره الخوري ورياض الصلح ومَنْ حولهما.
إننا نقف اليوم، بعد سنة على إعلان مجمعنا الأبرشي، وستة أشهر على إطلاق أعمالنا المجمعية، وشهر على إطلاق خليفة يوحنا مارون السابع والسبعين المذكِّرة الوطنية من بكركي مذكِّراً بالبطريرك الحويك وبدور البطريرك البطريركية في بناء لبنان وفي الحفاظ عليه،
إننا نقف وقفة صلاة وفحص ضمير أمام الذات وأمام الله لطلب المغفرة واستنتاج العِبَر ورسم طريق المستقبل، ونتساءل:
- أولاً: أين نحن من إيماننا بالله وثقتنا الكاملة به والإصغاء الى كلمته وسماع صوته يدعونا الى التغلّب على الخوف والقلق اللذَيْن يسكنان فينا، فننطلق بحرية وجرأة ورجاء في رسالة أممية جديدة نعيش فيها المحبة مع كل إنسان ونكون فعلاً ملح أرضنا وشرقنا؟
- ثانياً: أين نحن من عيش مقوّمات روحانيتنا النسكية - في الصلاة والصوم والسهر والتقشف- هذه الروحانية التي سمحت لشعبنا وكنيستنا وعائلاتنا بالصمود في وجه كل التحديات، فنبقى واقفين كي لا نرتخي فنرضخ فنُستعبد؟
- ثالثاً: أين نحن من تمسّكنا بأرضنا المقدسة التي أضحت عنصراً هاماً من عناصر هويتنا المارونية واللبنانية؛ هذه الأرض التي اختارها ابنُ الله سيدنا يسوع المسيح ليدخل من خلالها في التاريخ والجغرافيا، فيولد فيها إنساناً ويعيش عليها ويموت عليها مصلوباً حُباً بالبشر أجمعين وفداءً عنهم؟
- رابعاً: أين نحن من دورنا في الحفاظ على الإنجازات الروحية والثقافية والإجتماعية والسياسية والوطنية التي حققناها في مسيرة تاريخنا الطويل (راجع ما كتبه البطريرك اسطفان الدويهي والخوري يواكيم مبارك)؛ وتوصّلنا من خلالها الى بناء لبنان دولةً تحترم تعددية الأديان والطوائف والثقافات والحضارات في الحرية والكرامة والمساواة؟
أين نحن من الدور الذي يعترف لنا به إخوتنا في المواطنية، مسيحيون ومسلمون؟ وآخرهم سعادة سفير لبنان في الكويت الدكتور خضر حلوة إبن طرابلس وتلميذ الخوري يواكيم مبارك في باريس، إذ يقول:
« إن لبنان يتّسع للجميع؛ وقد مرّ بحروب وأزمات مؤلمة، وما يزال حتى اليوم داخلاً في التجربة. لكن إيمان أهله بحدوده الجغرافية تجعلنا نؤكد على ضرورة الإكتفاء بل 10452 كلم2؛ فلا حاجة لطموحات تتجاوز حدوده، ولا مصلحة لكيانات ضيقة تقزّمه.
فهذه المساحة كافية لتتسع للجميع ولتستوعب الجميع من أبنائه.
والمسؤولية تقع على عاتق الجميع، وأولهم موارنة لبنان الذين أسسوا لبلدٍ فريد في منطقة عربية عرفت دولُها قيمة هذا البلد الصغير المساحة والكبير الدور.
وكما أن مسؤولية الحفاظ عليه تقع على موارنته، قياداتٍ وأفراداً، فالمسؤولية مشتركة على قيادات الطوائف الأخرى وأفرادها. فأهمية لبنان ليست بأكثرياته ولا بأقلياته، بل بمجموع بشره المتنوعين الذين أغنوا تاريخه وأضافوا بفكرهم وعلمهم وانفتاحهم قيمة يعترف لهم بها جميع أشقائه.
كما أن أهمية خصوصيته تكمن في هذا الوجود المسيحي فيه. فإذا كان المسيحيون هم ملحُ الارض في المنطقة العربية، فالموارنة هم ملحُ أرض لبنان. فهم أبناء القديس مارون، وحَمَلة إرث يوحنا مارون ممن لديهم الإرادة الصلبة والإنتماء القوي لوطن تعددي، منفتح مثلما هم الموارنة منفتحون، ومتميّز مثلما هم متميزون.
وما الوثيقة التي صدرت من بكركي على لسان غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي إلا دليلاً على أن الكلمة الفصل في وجود لبنان وديمومته ونهائيته تنطلق من الصرح البطريركي الماروني الذي يحمي لبنان كله بجميع طوائفه، ويحمي اللبنانيين كلهم على مختلف إنتماءاتهم السياسية». (كلمته في عيد مار مارون في الكويت، 7/2/2014).
نتضرع إليك يا الله ونرفع صلواتنا طالبين، بشفاعة مريم والدة الإله وسيدة لبنان ومار مارون ومار يوحنا مارون وجميع قديسينا، أن يكون عيد مار يوحنا مارون انتصاراً للمحبة والأخوّة والسلام في لبنان وفي شرقنا الحبيب.
وكلنا ثقة أنك معنا باقٍ، أيها الرب يسوع، إلى أبد الأبدين . آمين.