كلمة المطران منير خيرالله
في تقديم كتاب « البترون وآل ضو- سيرة مدينة وعائلة» للأستاذ نبيل يوسف
الجمعة 8/5/2015، في مجمّع بترون ڤيلاج كلوب- البترون
يتحفنا الأستاذ الصديق نبيل يوسف بكتاب جديد عن « البترون وآل ضو- سيرة مدينة وعائلة». وهو يحاول كتابة صفحات من تاريخ آل ضو في البترون، كما حاول غيرُه كتابة صفحات من تاريخ آل عقل.
والتاريخ لا يُكتب إلا بعد أن يمرّ عليه الزمن وتُجمع وثائق أحداثه من جهات مختلفة وتتقابل وتخضع للمقاربة والمناقشة والتحليل. كتاب الأستاذ نبيل هو محاولة ناجحة تسهم في كتابة التاريخ المعاصر وتقدّم لنا وثائق تصلح أن تكون، بعد مقاربتها مع وثائق أخرى ليست موضوع هذا الكتاب، ومناقشتها وتحليلها، مرجعاً لكتابة تاريخ لبنان.
في هذا الكتاب نقرأ بعض الصفحات الجليلة عن آل ضو ومآثر شخصياتهم البارزة ومركزية منزلهم في البترون الذي كان يسمّيه البعض « البيت الأبيض». وآل ضو، بصداقتهم مع آل فرنجيه، كما آل عقل بصداقتهم مع البطريرك الياس الحويك، أسهموا كأبناء البترون بكتابة بعض جوانب من تاريخ لبنان.
نكتشف في هذا الكتاب ثلاث شخصيات من آل ضو تعاقبت في ثلاثة أجيال على خدمة البترون، المدينة والمنطقة: المحامي أسعد يوسف ضو، تلميذ مدرسة مار يوحنا مارون وجامعة القديس يوسف بيروت، ومدير ناحية البترون الساحلية في أوائل القرن العشرين، ومؤسس معهد الحقوق ومجلة « مشهد الأحوال» في البترون.
المحامي النائب يوسف أسعد ضو، تلميذ معهد مار يوسف عينطورا وجامعة القديس يوسف بيروت ورفيق الدراسة والنيابة للأستاذ حميد فرنجيه.
المحامي جورج يوسف ضو، تلميذ المؤسسة الحديثة للأب ميشال خليفه ومدرسة الحكمة وجامعة القديس يوسف بيروت، والابن المميّز لدى الرئيس سليمان فرنجيه.
خدم الثلاثة منطقة البترون، من خلال رسالة المحاماة، وحملوا هموم أهلها ومعاناتهم وأثقالهم وحرمانهم ورفعوا الصوت مندّدين بالإهمال الذي كانت تعاني منه المنطقة ومطالبين بحقوقها.
يقول الأستاذ جورج ضو في مقدمة الكتاب: « المحاماة هي المهنة الصعبة ولكنها الأكثرُ التصاقاً بمشاكل الناس ومعاناتهم والأكثر قرباً من موقع السلطة والقرار في مؤسسات الدولة... وفي رسالتي هذه مارستُ فعلَ إيمان عميق بالإنسان وبلبنان وحقّقت انفتاحاً إنسانياً وإجتماعياً وسياسياً على كل الناس وعلى جميع الفئات» (ص 5).
وهذا الموقف نابع من التزامٍ مسيحيّ وكنسيّ عرفناه في الأستاذ جورج؛ فهو ابن الكنيسة يلتزم تعاليمها في خدمته الإجتماعية والسياسية.
وتُعلِّمنا كنيستنا المارونية في المجمع البطريركي الماروني (2006)، الذي هو عصارةُ فكر وتعليم كنيستنا ودليلُها للسنوات الخمسين المقبلة، ونحن اليوم في البترون في مسيرة مجمع أبرشي يهدف إلى تطبيق المجمع البطريركي الذي نقرأ فيه: « السياسة رهانٌ كبير؛ هدفُها الوصول إلى مجتمع يعترف فيه كل شخص بالآخر على أنه أخوه ويعامله على هذا الأساس». « السياسةُ نضالٌ متواصل وممارسة يومية للأفراد كما للجماعات، تنتقل من جيلٍ إلى جيل لإيجاد الحلول لمشاكل المجتمع ولتأمين حق الإنسان في الحرية والعدالة والسلام والعيش الكريم بعيداً من الأوهام وتبسيط الأمور، لأن لا شيء في السياسة مُعطىً بل هو قابل للتطوّر باستمرار. في اختصار، السياسة هي الاهتمامُ بالآخرين، والالتفاتُ إليهم، والاستماعُ إلى مشاكلهم، ومساعدتُهم واحترامُهم ومحبتُهم». (المجمع البطريركي، النص 19، الكنيسة المارونية والسياسة، عدد 46 و47).
هكذا مارس السياسةَ كبارُنا الذين سبقونا وتركوا لنا إرثاً عريقاً وأمثولة في التعاطي مع الشؤون السياسية على أنها قابلة للتطور باستمرار لكن بالقيم نفسها التي هي من الثوابت ولا تتغيّر.
تعالوا نقرأ، على سبيل المثال، ما يكتب النائب يوسف سالم في هذا الكتاب عن ظروف انتخاب الرئيس كميل شمعون سنة 1952 والمنافسة التي كانت قائمة بينه وبين الأستاذ حميد فرنجيه:
« برز في الميدان مرشحان لكل منهما مكانةٌ كبيرة وقاعدةٌ شعبية وماضٍ سياسي ورصيدٌ وطنيّ ضخم: كميل شمعون وحميد فرنجيه، ... ظنّ الشعب اللبناني بسذاجته وطيبته، أن الفوز سيُكتب لمن يختاره نواب الشعب أحراراً من كل ضغط وتأثير، إلا تأثير مزايا أحد المرشحَيْن على الآخر. ولكن واقع الحال كان غير ذلك؛ فأبواب لبنان لا تزال مشرّعة أمام النفوذ الأجنبي وتدخّل قريبها وبعيدها لا يزال يفعل فعله.
بلغ التنافس بين المرشحَيْن قمّته.... عندئذ، توجهتُ إلى حميد فرنجيه بهذا السؤال: هل ترضى أنت حميد فرنجيه بأن يُنتخب رئيس الجمهورية اللبنانية في هذا الجو من الضغط ؟ قال: لا وما ترانا نفعل ؟ قلت: أرى أن تجتمع بكميل شمعون وتدرسا الموقف معاً ويحصي كلّ منكما مؤيّديه من النواب، ومن كان عدد مؤيّديه أقل ينسحب للآخر، ويُنتخب الرئيس حينئذ بالإجماع ونُزيل عنّا وصمةَ تدخّل الأجنبي. ... لم يتردّد حميد فرنجيه، بل وافق على الفور. فذهبتُ في الحال إلى كميل شمعون وعرضت عليه الاقتراح ثم دعوته إلى الإجتماع بحميد فرنجيه في منزلي. وبعد ساعات قليلة، كان المرشّحان المتنافسان وجهاً لوجه في خلوة لم يحضرها سواي يدرسان الموقف من كل وجوهه. ... فجأة، وقف حميد فرنجيه وقال لكميل شمعون: مبروك. ثم صافحه وانفتح الباب على مصراعيه فضجّت الدار بالتصفيق والهتاف» (ص 145-146).
هل نتعلّم اليوم من أسلافنا قيمة الخدمة السياسية وبذل التضحيات المطلوبة في خدمة الشعب والمجتمع والوطن ؟
وطننا لبنان يمرّ اليوم بأزمة مصيرية في السنة الأربعين على إطلاق شرارة الحرب فيه، وهو بدون رئيس منذ أحد عشر شهراً، ومؤسساتُه مهدّدة بالإنفراط، هذا عدا عن العواقب الوخيمة التي يتحمّلها هو وشعبه جرّاء الحروب الدائرة في المنطقة، ومن أخطرها وِزْر اللاجئين واشتداد الأزمة الإقتصادية.
جميعُنا مدعوون، وبخاصة السياسيين من بيننا، إلى أن نلتزم بكل خدمة يمكن تأديتُها في المجتمع ومن أجل الخير العام، فيكون حضورُنا فاعلاً وشجاعاً ومثابراً في الحياة العامة، كلٌّ من موقعه ووفقاً لدعوته ورسالته وإمكاناته الخاصة.
ولا يمكننا « التخلّي عن المشاركة في السياسة، أي عن النشاط الإقتصادي والإجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي المتعدّد الأشكال الذي يستهدف تعزيز الخير العام، عضوياً وعبر المؤسسات»، كما يطلب منا القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي (عدد 112). ذلك لأن الوصول إلى مجتمعٍ أكثرَ عدلاً وأكثر احتراماً لحقوق الإنسان يتطلّب منا المشاركة، كونها المدخل إلى تصويب الأمور.