عظة المطران بولس مطر في جنازة الخوري بطرس الحكيّم- البترون 4-8-2015

 

عظة المطران بولس مطر

في جنازة الخوري بطرس الحكيّم

كاتدرائية مار اسطفان البترون، 4/8/2015

 185

« يا لك عبداً صالحاً أميناً، كنت أميناً على القليل فسأقيمك أميناً على الكثير» (متى 25/21)

 

سيادة أخينا راعي الأبرشيّة السامي إحترامه،

إخواني أصحاب السّيادة السّامي إحترامهم،

آبائي الأجلّاء،

إخوتي وأخواتي الأحبّاء جميعًا بالرّب يسوع المسيح،

عائلة العزيز الخوري بطرس الحكيّم الكرام والأحبّاء.

 

أعطاني الرّب أن أعرف الخوري بطرس وكنت ولدًا في الحادية عشرة من سنيّ يوم دخلت إلى المدرسة الإكليريكيّة في مار عبدا ودخل هو في سنوات الفلسفة واللّاهوت.

منذ أن تعرّفنا على وجهه الصبوح أحبّه جميع رفاقه. كان رجلًا متكمّلًا حكيمًا خَبَزَ الحياة وعجنها؛ ودخل إلى المدرسة الإكليريكيّة بكلّ قناعة وبنعمة كبيرة من الله. ولم يكن هذا الأمر غريبًا عنه؛ فهو إبن عائلة كهنوتيّة بامتياز. والخوري بطرس والده كان معروفًا في كلّ هذه المنطقة. وقد أراني الخوري بطرس الإبن رسالة كتبها البطريرك الياس الحويك السّعيد الذّكر للخوري بطرس الأب، يقول فيها: « بعد أن تفحصنا أمر خدمتك أيّها الأب العزيز، رأينا أنّك تقوم بها خير قيام؛ فاستحسن عملُك ثناءنا؛ ونباركك ونبارك رعيّتك وعائلتك، ونمنحك البركة الإلهيّة ونطلب منك أن تصلّي من أجلنا». هذا كان كلام البطريرك الحويك للخوري بطرس الوالد.

في هذا الجوّ تربّى الخوري بطرس وكان إسمه فارس. وقد تعرّفنا على شقيقه الأبونا يوسف من جمعية المرسلين اللبنانيين. وكان هو أيضًا كاهنًا صالحًا غيورًا معروفًا، لم يعمّر طويلًا، لكن ذكره بقي حيًّا إلى الآن وسيبقى عند الرّب إلى الأبد.

الخوري بطرس الشّاب دخل المدرسة الإكليريكيّة مرّتين. في المرّة الأولى صغيرًا؛ وقد أخبَرَنا أنّه قصد بكركي وكان في جيبه ثلاثون قرشًا. نزل سيرًا على الأقدام من الفتاحات إلى البترون؛ ونزل مع كميون إلى جونية بعمر خمس عشرة سنة؛ وصعد سيرًا على الأقدام إلى بكركي؛ وطلب أن يكون كاهنًا. لم يُستجبْ طلبه. فعاد في اليوم ذاته سيرًا على الأقدام صعودًا من البترون إلى الفتاحات.

عندما كان يكلّمنا بهذه الأمور كنّا نفرح به فرحًا كبيرًا ونرى فيه إنسانًا مؤمنًا محبًّا للكهنوت ومحبًّا للخدمة. ويصادف اليوم يا إخوتي أنّه يغادر هذه الدّنيا في عيد كاهن عظيم هو الخوري آرس في فرنسا، القدّيس وشفيع الكهنة في العالم كلّه. خوري آرس لم يكن عالِماً باللاهوت مع أنه كان يعرفه معرفة كاملة وحقيقيّة، لكنّه أكثر من العلم في الكتب كان يعرف الله مباشرة في تأمّلاته وصلواته، ويقرأ في الكتاب الكبير، كتاب الحياة، في قلوب النّاس، عطشًا إلى الله. فخدم رعيّته كما لا أحد؛ وصار قدّيسًا شفيعًا للكهنة في العالم بأسره. في عيد الخوري آرس يذهب الخوري بطرس إلى السّماء. وإنّي بكلّ ثقة ودون أن أُخطئ أتجاسر وأسمّيه خوري آرس لبنان. هذا الكاهن الّذي قَبِلَ سرَّ الكهنوت منذ ستين سنة، سنة 1955، وكنّا طلّابًا صغارًا خدمنا في قدّاسه. أرسله المطران اغناطيوس زيادة، الذي كان عاش معه فترة طويلة في حلب كخادم شمّاس، إلى بلدة عين سعادة الحبيبة حيث الكرسي الصيفي للمطرانيّة وأرزاقُها وحيث رعيّةٌ بقيت أمينةً له حتّى اليوم وستبقى. خدم فيها طوال حياته الكهنوتيّة ما عدا سنتين أو ثلاثة في التقاعد. وقال لي منذ أسبوعين عندما زرته في المستشفى: « خدمت سبعةً وخمسين سنة في عين سعادة ولم أزعّل أحداً. أحببت الجميع؛ عمّدتهم وزوّجتهم وزوّجت أولادهم وعمّدت أولادهم». وبالحقيقة هذا كلام يبقى لنا جميعًا نحن الكهنة مثالًا للخدمة الحقيقيّة. هذا الإنسان الّذي أحبّ النّاس لأنّه أحبّ الله أوّلًا، وأحبَّ النّاس حبّه للربّ أي لأنّهم أبناءُ الله وبناتُه. خدمهم بكلّ قلبه وكان مليئًا بالحكمة وقد أتاه من الله الشيء الكثير. عُرف في أبرشيّة بيروت بالكاهن الحكيم والمحب والفرح والمفرح في آن معًا.

يقول الكتاب المقدّس إنّ من يزرع بالدّمع يحصد بالفرح. الخوري بطرس لم يزرع بالدّمع، بل كان صبورًا وقديرًا وجبّارًا في حياته الخاصّة والعامّة؛ عمل وزرع بالحب والفرح؛ ولذلك حصاده اليوم مضاعف عند الله وعند النّاس. كان ذلك الإنسان الّذي يفهم الأمور كلّها بالحكمة والفطنة وقداسة السّيرة. عطَّر سيرته أينما حلّ. محبّتُه لله وللنّاس موصوفة؛ كهنوته كهنوت كان مقتنعًا به كلّ القناعة وكان يدرك أنّ الله أعطاه كلّ شيء عندما أعطاه سرّ الكهنوت وخدمة الكهنوت.

أيّها الأحبّاء، هذه القناعة في قلبه النابعة من الإيمان الرّاسخ تشرح الفرح الّذي كان الخوري بطرس يعيشه طوال حياته. محضره طيّب وجميل؛ وكل رفاقه يذكرونه يومًا ليوم. ربّما قد عرفناه أكثر منكم، أكثر من أهله الّذين أحبهم محبّة كبيرة، وخدمهم وعطف عليهم مع إخوته الأحبّاء الّذين عرفناهم واحدًا واحدًا يزورونه في الكرسي في عين سعاده؛ وكان عندهم من الحكمة ما يبهر الجميع، إذ تربّوا في عائلتهم التربية الصالحة هنا في منطقة البترون، في هذه المنطقة المارونيّة الصّرف الّتي تعطي القدّيسين والمؤمنين وتوزّع الكهنة على الأبرشيّات كلّها، أبرشية بيروت وسواها من الأبرشيات في لبنان وخارج لبنان.

نصلّي من القلب ونتمنّى لهذه الأبرشيّة، برعاية سيدّنا المطران منير وقبله المطران بولس إميل، وكلاهما عزيز علينا، الإزدهار وأن تظل على الدّوام مؤمنة بالرّب تعطي للكنيسة الكهنة الورعين والصّالحين. ونسأل الله بشفاعة هذا الإنسان، الخوري بطرس الحكيّم، أن يمنّ علينا بالدّعوات الكهنوتيّة والرّهبانيّة لنستمر في خدمتنا في لبنان وفي الخارج لهذه الكنيسة المارونيّة العزيزة الّتي هي زرع الرّب في هذه الأرض، لتبقى على الدّوام شاهدةً لمحبّته، قويّةً في إيمانها، صلبةً في الدفاع عن حقوق النّاس جميعًا كما حقوق أولادها وأهلها. إنها منتشرةٌ اليوم في العالم كلّه لكنّها صامدةٌ بمحبّتها لهذا الوطن وقدّيسيه. الخوري بطرس هو من عداد الّذين نذكرهم؛ نتقوّى به وبصلابة إيمانه وبصدق كهنوته وبمحبّته الكبيرة. فهو يعطي المثل لنا جميعًا ويقوّينا في حياتنا الكهنوتيّة وفي رسالتنا.

لا تتصوّروا مدى تأثير هذا الكاهن على رفاقه وعلى الأبرشيّة الّتي عاش فيها. نحن لا نصدّق أنّه تركنا منذ سنتين أو ثلاثة؛ وبخاصّة منذ ستّة أشهر عندما أعاد مفاتيح غرفته الّتي أبقيناها له، قلتُ في نفسي: "الخوري بطرس مش مطوّل لأنّه بدأ يرد كل شيء إلى مكانه". وهكذا في نهاية حياته أوصى بـأن يكون بيته الكهنوتي بيت كاهن الضيعة لا لأهله، وكتب عقاراً خاصاً باسم الوقف يكون مردوده مساعدًا لأي كاهن يخدم الفتاحات من الآن وحتّى المستقبل؛ أي أنّه نظر إلى إستمرار هذا البيت ليكون بيتًا للكهنة، هو الّذي أعطى الكهنة بوفرة وأعطانا كهنة صالحين ووضع كل شيئ في نصابه وسلّم نفسه للرّب ليؤدّي الحساب عن وكالته. وما من شكٍّ أيُّها الإخوة أنّه تسلّم من الله وزنات كثيرة: وزنات في صحّته، في عقله، في قلبه، في إيمانه، ففاز بكل هذه الوزنات وربح الكثير الكثير. واليوم يمثل أمام الله وهو مرتاح لأنه لا شيء عنده يخبئه، ليقول له: " يا ربّي، أنا عدت إليك إنّي مستعدّ لحكمك عليّ". فيقول له ربّه: "يا بونا بطرس كنت أمينًا على القليل فسأقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح السّماء"، هناك مع الأبرار والصدّيقين مع العذراء مريم الّتي كان يحبّها محبّة كبيرة. وقد قال لي منذ أسبوعين: "إنّي أفكّر بكم بعيد السّيدة (يعني بعد 10 أيّام) وبما يجب أن يكون". أي أنّه كان يوصينا بأن نقيم العيد بفرح في عين سعاده وفي المنطقة بأسرها. هذا الإنسان الّذي كان زاهدًا، كان متعلّقًا بحبّه للنّاس جميعًا، وكان إبن وفاءٍ لمطرانه، لإخوته الكهنة، للنّاس الّذين أحبّهم في بلدة عين سعاده الّتي تزحف اليوم ببلديّتها ومختارها وأخويّتها وجمعيّاتها وأهلها ليلقوا عليه الوداع الأخير مثل أهله تمامًا، وهم أهل له أحبّهم كما أحب أهله وأكثر. هذا الوفاء هو عربون وفائه للرّب بكلّ نذوره ولكلّ وعوده. والله سيكون له أوفى ويعطيه أكثر ممّا نظنّ بدون حساب، يجلسه إلى مائدته ويدور يخدم قدّيسيه ومنهم الخوري بطرس. ونرجو له أن يكون في عداد الصّالحين القدّيسين وأن يشفع لنا جميعًا، وللكهنة بصورة خاصّة، حتّى يعطينا الله على أمثاله دعوات صالحة وكهنة قدّيسين.

هكذا نودّعه اليوم بغصّة ولكن بفرح كبير. إنّ ذاك المسافر والمجاهد الّذي تعب كثيرًا في حقل الرّب يرتاح اليوم من عناء هذا الدّهر لينال عند الله الحظوة الكبرى، ولنا أيضًا في أبرشية بيروت كلمة وفاء نقولها لكلّ أهله الّذين اعتبروا كرسي المطرانيّة في عين سعادة كأنّه بيتهم؛ نذكر ماري بشكل خاص وأهلها والكهنة جميعًا والخوري منصور وشقيقه. نذكرهم بالصّلاة والمحبّة. ونقول لهم: شكرًا لأنّكم أعطيتمونا كاهنًا صالحًا على مثال الخوري بطرس الحكيّم. رحمة الله عليه ونفرح لوصوله إلى بيت الآب. ونقول شكرًا لله لأنّه يعطينا من يقوّينا في إيماننا ومحبّتنا على غرار هذا الرّجل. أعطنا يا ربّ كهنة قدّيسين. لك الشّكر وللخوري بطرس الرّاحة في دار الخلود ولكم من بعده طول العمر باسم الآب والإبن والرّوح القدس الإله الواحد آمين.