عظة المطران منير خيرالله في قداس ليلة عيد تجلي الرب محميّة أرز تنورين، 5/8/2015 « حسن لنا أن نبقى هنا» (مرقس 9/5) إخوتي الكهنة، حضرة رئيس البلدية والمختار ورئيس محميّة تنورين، أحبائي جميعاً أبناء وبنات تنورين نلتقي اليوم لنحتفل معاً بعيد تجلّي الرب، هذا العيد الذي أراد من خلاله الرب يسوع أن يُظهر مجده أمام بعض رسله. اصطحب يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا و «انفرد بهم وحدهم على جبلٍ عالٍ، وتجلّى بمرأى منهم» (مرقس 9/2). وعندما رأى الرسل الثلاثة مجدَ يسوع، وهم على قمة الجبل بعيدون عن العالم وهمومه اليومية، تصوّروا ما ينتظرهم مع المسيح من مجد سماوي لا يزول؛ لأن مجد العالم باطل بينما مجد الرب يسوع هو المجد الأبدي الذي لا يزول. فكانت ردّة فعل بطرس العفوية قائلاً: «حسن لنا يا رب أن نبقى هنا وننصب ثلاث مظالّ: واحدة لك، وواحدة لموسى، وواحدة لإيليا» (مرقس 9/5)، فلا نعود إلى حياتنا اليومية وهمومنا ومشاكلنا. «فلم يكن يدري ماذا يقول لما استولى عليهم من الخوف» (مرقس 9/6). لكن يسوع أراد منهم، بعد أن ذاقوا طعم المجد السماوي، أن يعودوا إلى حياتهم اليومية ويحملوا مسؤولياتهم ورسالتهم في العالم الذي يعيشون فيه ويشهدوا له برؤية جديدة فيها طعم المجد السماوي، أي أن يعيشوا في العالم وهم ينظرون إلى فوق، إلى مجد الله. أحبائي، نحن اليوم على قمة جبل أرز تنورين وكأن المسيح يدعونا جميعاً، كما دعا بطرس ويعقوب ويوحنا، إلى أن نرتفع ونذوق طعم المجد الذي يحجزه لنا في الملكوت. وفيما نحن نتأمل الطبيعة من حولنا ومن على قمة الجبل ونرى العالم من فوق، لا نستطيع إلا أن نشكر الله الذي خلقنا وخلق هذه المخلوقات في خدمة الإنسان. إذ إنه بعد أن خلق الكون بكل ما فيه، خلق الإنسان على صورته كمثاله، وقال له: تسلّط على هذا الكون واستخدم كل المخلوقات ولكن باحترام من أجل كرامتك؛ فأنت تعيش بذلك كرامة صورة الله؛ ولا تنسَ أني خلقتك على صورتي كمثالي وخلقت لك الكائنات لتكون في خدمتك، ولا تنسَ أنها هي أيضاً مخلوقة من الله. إن لنا من هذا الكلام أمثولة لحياتنا وموقفاً نتخذه كل يوم في تعاملنا مع أخينا الإنسان ومع الطبيعة. يعلّمنا يسوع، كما تعلمنا الكنيسة، أن نكرّم الإنسان ونكرّم الطبيعة والمخلوقات التي فيها. واحترام الطبيعة هو من احترام الإنسان، واحترام الاثنين هو احترام لله وتمجيد له على مخلوقاته. أصدر قداسة البابا فرنسيس في 24 أيار 2015 رسالة عامة عن البيئة واحترام الطبيعة كما احترام الإنسان؛ يعلّمنا فيها أموراً كثيرةً، ويشدّد على واجبنا في العناية ببيتنا المشترك والحفاظ عليه وذلك عبر احترام الإنسان في حقه في الحياة الكريمة واحترام المخلوقات في حقها بأن تكون في خدمة الإنسان. واجبنا أولاً أن نحبّ الإنسان ونحترمه وندافع عن حقه في الحياة، لأن الله خلقه على صورته كمثاله. واجبنا إذاً أن لا نتعدى على الإنسان، وأن نرفض العنف والحقد والحرب لندافع عن الحياة التي فيه؛ فهي هبة من الله وليست ملكاً لأحد. والتعدّي على الإنسان، بخاصة إذا كان جنيناً في حشا أمه أو فقيراً أو مُهملاً أو مظلوماً، هو تعدٍّ على الله. واجبنا ثانياً أن نحبّ الطبيعة ونحترم المخلوقات التي خلقها الله في خدمتنا لتمجيده تعالى وللاستفادة منها في بناء بيتنا المشترك. وكلُ تعدِّ على الطبيعة، أو على أي عنصر من عناصرها، حيواناً كان أو نباتاً أو تراباً، هو تعدٍّ على الإنسان وعلى الله خالقهما. فاحترام الطبيعة هو من احترام الإنسان، واحترام الإنسان هو من احترام الله. وعندما نفهم مقاربة هذين المبدئين نكون بدأنا نعيش التزامنا المسيحي، أي التزامنا بتعليم المسيح وتعليم كنيسته، وبدأنا نعيش في العالم وكأننا على قمة جبل الأرز أو على قمة أي جبل من جبالنا. ونكون بدأنا نطبّق التزامنا الجماعي والفردي في سبيل بناء مجتمع ووطن ودولة ومؤسسات تحترم الإنسان وتحترم الطبيعة. وإذا عدنا إلى واقعنا اليوم لنتأمل في حالة الإنسان عندنا وفي حالة الطبيعة، نلاحظ أننا في مرحلة انحطاط وتدهور كبيرين. كيف يُعامَل الإنسان والمواطن اليوم في دولتنا ومؤسساتنا ؟ وكم يلزمه من جهود واستجداء واسطات ودفع أموال غير شرعية ليحصل على أي حق من حقوقه أو ليتابع معاملة له الحق فيها ؟ وكيف تُعامَل الطبيعة عندنا والبيئة الحياتية التي نعيش فيها ؟ مشكلة النفايات التي تفاقمت في الآونة الأخيرة ليست إلا نتيجة للإهمال والإستهتار والفساد في تحمّل المسؤوليات. فالإنسان في لبنان الذي أراده الله رسولاً في المحبة والانفتاح والعيش الواحد المشترك يُنتهَك في أبسط حقوقه وكرامته. والطبيعة الجميلة التي خلقها لنا الله وهي جنّة مميزة تُنتهَك وتُهان كل يوم بسبب الإهمال وعدم تحمّل المسؤولية وانعدام التربية الوطنية. أجدادنا وآباؤنا الذين تعبوا على هذه الأرض وحولوها إلى جنّات، حافظوا عليها كما حافظوا على عائلاتهم وأولادهم وأحفادهم ونقلوا إلينا تراثاً عريقاً من القيم المسيحية والإجتماعية. تجاه هذا الواقع نحن مدعوون أولاً، كما يطلب منا قداسة البابا فرنسيس في رسالته، إلى فعل توبة صادق؛ توبة إلى الله وإلى ذاتنا وإلى أخينا الإنسان، وتوبة إلى الطبيعة، لكي نطلب المغفرة ونتخذ المقاصد من أجل تغيير سلوكياتنا. ونحن مدعوون ثانياً إلى مسيرة تربية تبدأ بأولادنا في البيت، قبل المدرسة والمجتمع، وتسعى إلى تنشئتهم على احترام الإنسان واحترام البيئة التي يعيشون فيها واحترام القوانين والشرائع التي تضعها دولتهم ومؤسساتها. خلاصنا من هذا المأزق لا يأتي من المسؤولين، بل يبدأ بالعائلة، بتربية أولادنا على الإيمان بالله، وعلى القيم التي تحترم الإنسان والخليقة على حدِّ سواء، وعلى التخطيط لبناء وطن ودولة ومؤسسات تطبق هذه القيم. صحيح أننا نمرّ في مرحلة انحطاط وانحدار، لكننا لم نخسر كل شيء، كما يقول لنا البابا فرنسيس. نحن قادرون على إعادة بناء وطننا وطناً رسالة بدءاً من العائلة. ونحن قادرون على تحمّل مسؤولياتنا الفردية والجماعية للتضامن والتعاون في بناء بيتنا المشترك، لأننا مقتنعون أنه بيتنا وأننا سنعيش فيه معاً، كما فعل آباؤنا وأجدادنا، بالرغم من كل التحديات التي تواجهنا. نطلب من الرب يسوع الذي رفعنا اليوم إلى هذا المكان المقدس أن يمنحنا نعمة روحه القدوس لنجرؤ على القيام بفعل التوبة المطلوب وعلى تغيير المعادلة القائمة لصالح احترام الإنسان واحترام الطبيعة وبناء وطن ودولة ومؤسسات تسعى إلى تمجيد الله في مخلوقاته وعلى رأسها الإنسان. آمين.