عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد سيدة الانتقال، في كنيسة سيدة عين الذهب- جُرد تنورين
وفي كنيسة سيدة الإنتقال- تنورين
السبت 15/8/2015
« تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي» (لوقا 1/46-47)
أبونا بيار (طانيوس) خادم رعية تنورين،
إخوتي الكهنة،
حضرة رئيس بلدية تنورين،
أحباءنا جميعاً،
بفضل الشيخ عزيز والشيخة ماري طربيه اللذَين عملا على ترميم كنيسة سيدة عين الذهب، نحن هنا اليوم على قمة هذا الجبل المرتفع فوق تنورين ولبنان لنحتفل معاً بعيد انتقال أمنا مريم العذراء إلى السماء بالنفس والجسد.
دعونا نعود إلى حدث انتقال مريم ونتصوّر أنفسنا واقفين مع جوق الرسل، واليوم مع جوقة الصوت العتيق بقيادة الأب ميلاد طربيه، لنتأمل بسرّ الله الذي كرّم مريم أمّ ابنه ورفعها إلى مجده السماوي بالنفس والجسد.
إنها لحظة تاريخية ومميزة تجعلنا ننظر إلى السماء ونتعمق في دور مريم في عمل التدبير الخلاصي إلى جانب ابنها يسوع ونستعرض مسيرة كنيستنا المارونية في تكريم مريم عبر الأجيال، وقد أصبحت عنصراً من عناصر هوّيتنا، لأننا مريميون. ومن خلال نصوصنا الطقسية وصلواتنا وزياحاتنا نستطيع أن نستخلص الأفكار الأساسية التي تشرح العقيدة المريمية عند الموارنة. وهي تنطلق من شخص المسيح الابن، الأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس، في طبيعتيه الإلهية والإنسانية، وتبقى دوماً مرتبطة بتعاليم الكنيسة عن عقيدة المسيح الابن المخلص. ونورد بطريقة سريعة أهم هذه الإفكار.
أولاً، مريم هي «أم الله» في خطة تدبيره الخلاصي للبشر، رسم الله الآب أن يتجسّد الابن وأن تكون مريم أماً له. وفي البشارة قال الملاك لمريم: ... “ستحملين وتلدين ابناً فسمّيه يسوع. سيكون عظيماً وابن العلي يدعى”. فالبشارة والتجسد لا ينفصلان، ومريم وابنها لا ينفصلان في الفكر اللاهوتي المسيحي والماروني. “مريم أم الله” هي من الافكار التي تتكرر في الصلوات المارونية القديمة والحديثة، في صلوات الشحيمة وفي القداس وفي الزياحات.
ثانياً، مريم هي “البتول” و “الدائمة البتولية”. أصبحت مريم «أم الله» وهي لا تزال بتولاً ودائمة البتولية. هكذا قال عنها أشعيا في نبوءته: «ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى عمانوئيل أي الله معنا». وهكذا قال عنها لوقا في إنجيله، وهكذا تُعلّم الكنيسة، وهكذا يردّد الموارنة في قداسهم وصلواتهم وزياحاتهم ليعظّموا «الطوباوية مريم أم الله الدائمة بتوليتها».
ثالثاً، مريم كمّلت أقوال الإنبياء. آباؤنا في الكنيسة السريانية يتوقفون كثيراً على رموز الأنبياء وأقوالهم عن مريم، وكذلك صلواتنا وزياحاتنا، في ضوء مسيرة الخلاص منذ البدء وحتى المسيح. لذلك نعلّم انه كما أن الرموز الخلاصية عند الانبياء قد تمّت بالمسيح “آدم الثاني”، كذلك العديد من الرموز قد تمّت أيضاً بمريم “حواء الثانية”. إنها ملتقى هذه الرموز الواردة في العهد القديم. “ان جميع الأنبياء صوروك بأمثالهم أيتها العذراء مريم التي صارت أم الله”، نصلّي في ستّار الأحد (من الشحيمة)، “والانبياء عليك تنبأوا بأن منك يولد يسوع ابن الله كي يفدينا” (في طلبة نسجد لك يا بارينا).
رابعاً، مريم والثالوث. اختار الله مريم منذ الأزل كي يكون لها دور مميز في مسيرة الخلاص. فهي مرتبطة بالأقانيم الثلاثة: “الآب اختارها، والابن حلّ فيها، والروح قدّسها”. وهي، كما نعبّر في طلبة الزياح نسجد لك يا بارينا: “بنت الآب، وأمُ الابن، وعروسُ الروح القدس”. ونرى في صلاة الشحيمة (من ليل الأربعاء) ما يعبّر جلياً عن دور مريم: “المجد للآب الذي اختارها أماً لوحيده، والسجود للابن الذي تجسّد منها بقداسة، والشكر للروح الذي طهّرها وقد حلّ فيها”.
خامساً، مريم لها أرفع مقام في الأرض والسماء. إنها قُبلة الشعوب، يطوّبها أبناء الأرض والسماء، لأنها صارت “أم العلي”، “أم الله”، “أم الابن وابنة الآب”؛ لأنها فاقت “الشمس والقمر وكل نجم بأفلاك السماء سرى”؛ لأنها صارت “سماء ثانية” لا بل أرفع من السماوات. فترانا نردّد: “اذا دعوتك سماء جديدة فالسماء أوضع منك، لأن المملوءة منه السماوات قد أشرق منك” (الشحيمة، صباح الأحد).
سادساً، مريم هي شفيعة لنا عند إبنها. صلواتنا كلها مجبولة بالدعاء والتضرع لمن لها “الدالّة عند ابنها”. “اطلبي تضرعي من الإله إبنك، لكيما بطلباتك يرحمنا”. فهي الشفيعة لنا نحن الضعفاء الخطأة عند ابنها. “أنت أمنا ورجانا، أنت فخرنا وملجانا، عند ابنك إشفعي فينا ليغفر برأفته خطايانا”، نقول في الزياح.
سابعاً، مريم “انتقلت إلى السماء بنفسها وجسدها”. نجد ذكراً لعقيدة انتقال مريم العذراء بالنفس والجسد إلى السماء في صلواتنا القديمة الموجودة في الشحيمة وفي نصوص القداس الخاص بأعياد مريم، وبخاصة عيد الانتقال حيث نقول: “إننا اليوم نكمل تذكارك، أيتها البتول القديسة مريم، ونحتفل بعيد انتقالك إلى السماء بالنفس والجسد ممتلئة نعمة ورحمة فياضة. أنت التي صرت سماء ثانية وحملتِ سيد الخلائق. ها هي السماء والأرض والخلائق كلها تعظم عيد انتقالك”. نلاحظ ان هذه العقيدة تعلّمها الكنيسة المارونية منذ ما قبل القرن العاشر ولم تنتظر إعلانها من قداسة البابا بيوس الثاني عشر سنة 1950.
أخيراً نقول أنه طالما أن تكريم مريم لا زال حيّاً في كنيستنا وينتقل من جيل إلى جيل بفضل عائلاتنا المقدسة،
وطالما أنكم ثابتون يا أبناء تنورين في تكريم مريم في كنيستكم الرعائية التي أرادها أجدادكم على إسم سيدة الإنتقال وفي كنيسة سيدة حريصا التي انتقلت من جرد تنورين إلى قمة درعون لتصبح سيدة لبنان، فلا خوف علينا وعلى كنيستنا وعلى لبنان !
وطالما أن عندنا بعدُ كاهن يحمل أيقونة العذراء مريم ويختفي وراءها ليزيّحها مع شعبه، وطالما أن عندنا بعد صوت حنون يرندح «يا أم الله يا حنونة»، فلا خوف علينا.
لا تخافوا إذاً! فنحن، مسيحيون ومسلمون، ثابتون في إيماننا بالله وفي تكريم أمنا مريم التي تشفع بنا على الدوام لدى ابنها ليحمينا من المصائب والحروب والاضطهادات، ومتمسكون بأرضنا المقدسة لأنها أرض وقفٌ لله وليست مُلكاً لأحد، ومصرّون على أن ننقل هذا الإيمان إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة. آمين.