عظة المطران منير خيرالله في ليلة عيد مولد العذراء، سيدة البحار- إده الاثنين 7/9/2015 « ما دامت لنا هذه الخدمة من الله فلا تضعف عزيمتنا» (2 قور 3/1). قدس الأب العام مالك بو طانوس الرئيس العام لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة إخوتي الكهنة، أخواتي الراهبات، سعادة القائمقام، حضرة رئيس البلدية والمختار، أحبائي جميعاً، بفرح الرب يسوع نحتفل معاً بعيد مولد أمنا مريم العذراء من على هذه القمة وتحت أقدام تمثال سلطانة البحار. إسمحوا لي أن أبدأ كلمتي بتحية شكر أوجهها إلى جمعية المرسلين اللبنانيين بحضور رئيسها العام الأب مالك بو طانوس. إذا كُنّا موجودين الليلة هنا فالفضل يعود أولاً إلى ربنا يسوع المسيح الذي أراد أن نكون معاً لنصلّي؛ ويعود ثانياً إلى المرسلين اللبنانيين الذين شيّدوا دير سيدة البحار على وقفية آل شديد؛ ويعود ثالثاً إلى القيّمين على هذه الوقفية، وعلى رأسهم المثلث الرحمة المطران جون شديد الذي سلّمها إلى المرسلين اللبنانيين ليشيّدوا مدرسة ومركزاً ويكون لهم حضور روحي ورسولي في هذه المنطقة وفي هذه الأبرشية، أبرشية القداسة والقديسين. ومنذ السنوات الأولى، في أيام سيادة المطران بولس آميل سعاده، كان حضورهم فاعلاً إذ كانوا يقومون بعمل رسولي ورعوي إلى جانب كهنة الرعايا، وكانوا يجمعون أبناء الرعايا والعائلات والأخويات والشبيبة في لقاءات صلاة ورياضات روحية والذين كانوا يأتون إلى هنا ليغرفوا الثمار الروحية بالإرشاد والمرافقة. لذلك فإن حضورهم الليلة ومشاركتهم في الذبيحة الإلهية في عيد مولد أمنا مريم العذراء يرتدي رمزية كبيرة. فإننا نرفع الشكر لله مع أمنا مريم من أجلكم، يا قدس الأب العام ويا إخوتي المرسلين اللبنانيين، على الرسالة التي تقومون بها، وقد شاءها مؤسسكم المطران يوحنا الحبيب، في خدمة كنيستنا المارونية أينما حلّت وأينما انتشرت. احتفالنا الليلة يعيدنا إلى تاريخ روحانيتنا النسكية التي وضعها مار مارون في عيشه النسكيّ على جبال قورش، والتي نقلها تلاميذه إلى جبال لبنان وحوّلوا شعبها إلى الإيمان المسيحي على اسم مارون. هذه الروحانية تقضي بالعيش على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، التي هي قمم جبال مقلوبة على حدّ قول الأب ميشال الحايك، وهي المكان المميز في الاستراتيجية الروحية إذ يشعر الإنسان أنه قريب من الله وبعيد عن الدنيا وهمومها. وتتطلّب حياة الصلاة والصوم والتقشف والعمل في الأرض. إنها روحانية الصليب على حدّ قول الأب يواكيم مبارك ببُعديها العمودي والأفقي. عاش شعب مارون هذه الروحانية إلى أن أتى يوحنا مارون وأسس الكنيسة المارونية البطريركية وثبّت عناصرها النسكية في العلاقة مع الله والعلاقة مع الإنسان ومع الأرض التي أرادنا الله أن نكون حاضرين فيها روحياً وإنسانياً وحضارياً وأن نكون شهوداً له في المحبة والمصالحة والخدمة والانفتاح مع جميع الشعوب التي تعيش معنا. نقل أجدادنا وآباؤنا إلينا هذه الروحانية ولكننا بدأنا اليوم نفقدها، ربما لأننا تركنا جبالنا وودياننا وانتقلنا إلى المدن وانغمسنا في ملذات العالم الجديد ومغرياته. علينا اليوم أن نعود إلى ذواتنا وإلى الله لنقوم بفحص ضمير وبفعل توبة صادق ولنكتشف من جديد عناصر روحانيتنا النسكية حتى ولو كنا موجودين في بيروت أو باريس أو نيويورك أو سيدني. لكننا نتساءل: كيف يكون ذلك؟ نذكر إنه، عندما كنّا في مسيرة السينودس الخاص بلبنان مع البابا القديس يوحنا بولس الثاني، جاءنا رئيس أساقفة باريس الكاردينال لوستيجيه سنة 1994 وطلب أن يزور وادي قنوبين حيث جذورنا الروحانية. وبعد أن صلّى فيها وتعرّف عن قرب إلى عناصر روحانيتنا النسكية، احتفل في اليوم التالي بالقداس في كاتدرائية مار جرجس في وسط بيروت. وكانت له لفتة خاصة إلى أبناء مارون، إذ قال لهم: «تقع عليكم اليوم مسؤولية كبيرة يا أبناء مارون، إذ إنه من واجبكم أن تعيدوا اكتشاف روحانية قنوبين وأن تنقلوها إلى قلب بيروت وإلى قلب المدن التي أنتم موجودون فيها في كل أصقاع العالم!». إخوتي وأخواتي، هذه هي مسؤوليتنا، وهذه هي رسالتنا: أن ننقل روحانيتنا إلى أولادنا حيث هم اليوم: في بيروت أم باريس، أم نيويورك، أم مونريـال، أم سان بولو، أم سيدني؛ وأن نكون شهوداً أمامهم في عيش الصلاة والتقشف والتجرّد عن مغريات الدنيا وفي التعلق بأرضنا المقدسة التي أصبحت هي أيضاً عنصراً من عناصر هويتنا. فهذه الأرض هي وقفٌ لله ولا ولن يملكها أحد. مرّت عليها شعوب كثيرة وأمبراطوريات وسلطنات وممالك واحتلّت ودمّرت وهجّرت وقتلت ولكنها زالت، أما الأرض فبقيت لنا. ونحن مؤتمنون عليها، ومن واجبنا أن نصونها ونحميها. والعاصفة التي تهبّ علينا اليوم، بالحروب والتطرف والتعصّب والقتل والدمار، ليست سوى واحدة من العواصف التي هبّت علينا في تاريخنا. فلن نفقد إيماننا ولن نستقيل من مسؤولياتنا. ونقول مع القديس بولس: «ما دامت لنا هذه الخدمة من الله، فلا تضعف عزيمتنا». سنبقى شهوداً للمسيح على أرض المسيح، وسنبقى نخدم إخوتنا بالمحبة والمصالحة والسلام، بشفاعة أمنا مريم، سيدة لبنان، وجميع قديسينا. آمين.