وفاة وجناز المثلث الرحمة المطران يوسف ضرغام 30-10-2015

 

عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في جنازة المثلّث الرحمة المطران يوسف ضرغام - كنيسة مار شربل - عبرين، الجمعة 30 تشرين الأوّل 2015

30/10/2015

200 

"أنا باب الخراف، مَن يدخل منه يخلص ويجد مرعىً" (يو10: 9)

                                                              

    1. من باب المسيح، الراعي الصالح، دخل أخونا المأسوف عليه جدًّا، المثلَّث الرحمة المطران يوسف ضرغام، راعي أبرشية القاهرة والسودان والزائر الرسولي على موارنة أفريقيا سابقًا، فوجد طعام الله الذي غذّى حياته المسيحيّة والكهنوتيّة والأسقفيّة، وخرج من باب المسيح يحمل غذاءه الروحي إلى خرافه في لبنان كاهنًا، ثمّ في مصر والسودان وأفريقيا أسقفًا، كراعٍ صالحٍ تنطبق عليه كلمة المسيح، "راعي الرعاة العظيم" (1بطرس 5: 4) عن نفسه: "أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي، وخرافي تعرفني" (يو10: 14).

هو وجه الأسقف المحبّ والمحبوب، الروحاني والراعوي، البشوش والفرحان، الإنساني والمسؤول. هذا الوجه يغيب عنّا، ليشرق عليه نور وجه المسيح، في مجد السماء، بين الرعاة الصالحين الذين دخلوا من باب المسيح، فوجدوا الخلاص ووفرة الحياة وسعادتها.

2. إنّه ابنُ عبرين العزيزة، البلدةِ المارونية الوادعة في بلاد البترون، جارة ديرَي القدّيسين قبريانوس ويوستينا-كفيفان، ومار يوسف جربتا، حيث تعبق رائحة القدّيسين نعمة الله ورفقا واسطفان، ويتواصل أريج القدّيس شربل. في عبرين أبصر النور محاطًا بكنائسها وبدير العيلة لجمعية راهبات العائلة المقدّسة المارونيات، بنات خادم الله البطريرك الكبير الياس الحويّك. وانفتحت عيناه، فيما هو ينمو ويترعرع، على العديد من الكهنة والرهبان والراهبات من أبناء عائلات بلدته، ومن بينهم أنسباء له هم: عمّه لوالده الخوري طانيوس ضرغام الأديب وشاعر المملكة الأردنيّة الهاشميّة، وخاله الخوري حنا خشان، وخالته الأخت بريجيت خشان من راهبات العائلة المقدّسة المارونيات. في هذا البيت الوالدي الغني بالإيمان، تربّى يوسف على القيم الروحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة مع شقيقَين، سبقاه إلى بيت الآب، تاركَين عائلتَين رضيَّتَين.

3. وعندما لبّى الدعوة الإلهية إلى الحياة الكهنوتيّة، وراح يسير على خطى المسيح، في دروبها بالدروس الثانوية في المدرسة الإكليريكية، ثمّ بالدروس الفلسفيّة واللاهوتيّة في جامعة القدّيس يوسف-بيروت، كان يفرح ويتشجّع برؤية آخرين من أقرب أنسبائه يلبّون مثله الدعوة المقدّسة للكهنوت والحياة الرهبانية، وهم ابن خاله المرحوم الخوراسقف برنار خشان الذي ودّعناه معكم منذ أشهر، وشقيقته الأخت ألكسين من راهبات العائلة المقدسة المارونيات، التي عرفناها في عمشيت لسنوات تخدم تربية الأجيال في مدرسة الجمعيّة وكنيسة السيدة الرعائية؛ وابن عمّته الخوراسقف بولس نصرالله الذي تعاونّا معه بصفة نائبٍ عام طيلة خدمتنا الأسقفية لأبرشية جبيل العزيزة، وكاهن غيور ومخلص لرعية عمشيت. وإنّنا نرجو لهما العزاء الإلهي والعمر الطويل، فتظلّ شعلة الكهنوت والحياة المكرّسة وضّاءة في هذه العائلة.

4. ولمّا ارتقى إلى درجة الكهنوت في 12 نيسان 1959، وهو ممتلئ غيرة وروحانية كهنوتية، أرسلته السلطة الكنسيّة إلى باريس لمتابعة الدروس العليا في جامعة السوربون، فقضى فيها أربع سنوات متخصّصًا بالآداب الفرنسية، ومواصلًا دراسات لاهوتية في المعهد الكاثوليكي الجامعي. وعاد إلى لبنان متحلِّيًا بالإيمان الحيّ، والدينامية الرسولية، والفضائل الكهنوتية. وانصرف بنشاط كبير إلى الرسالة في أيّ مكان ومن أيّ نوع، كما كانت تسندها إليه السلطة الكنسيّة.

فربّى الخوري يوسف أجيالًا من الإكليريكيّين للكهنوت كمسؤولٍ عن إدارة الدروس أوّلًا في إكليريكية مار عبدا هرهريا، ثمّ في إكليريكية غزير البطريركية، ومتولٍّ رئاسة هذه الأخيرة وبعدها  كمرشدٍ روحيّ. فدامت خدمته المتنوّعة هذه ستًّا وعشرين سنة. إنّ أعدادًا كثيرة من كهنة كنيستنا يحفظون له الفضل الكبير، وقد أصبح اسمه عندهم رديف كاهن الفرح والتواضع والنكتة الحاضرة والخبر المبهج، ورجل السلام الداخلي والكلمة اللّطيفة والروحانية الكهنوتية العميقة.

5. وفوق ذلك تفانى في الخدمة الراعوية في كلٍّ من رعايا زغرتا وكفرحي وبقسميا وجبلا. ودرّس الأدب الفرنسي في الإكليريكية وفي سبع ثانويات من مناطق البترون وجبيل وكسروان والمتن، كما أُسنِدَت إليه إدارة معهد التّثقيف الدّيني في نيابة البترون البطريركيّة وفيها كأبرشية، ومسؤوليّة التّعليم المسيحي فيها، وعُيِّنَ مرشدًا للشبيبة الطّالبة المسيحيّة في لبنان، ومرشدًا لرابطة كاريتاس البترون، وعضوًا في كلٍّ من المجلس الكهنوتي والعمل الرّسولي، وفي رابطة الكتاب المقدّس العالميّة، وحركة "كنيسة من أجل عالمنا"، ولجنة تحضير المجمع البطريركي الماروني، وأخيرًا رئيسًا للرابطة الكهنوتيّة.

6. هذا الكاهن اللامع في العلم والفضيلة، الغني والمتمرّس في العمل الراعوي والرسولي، انتخبه أعضاء سينودس أساقفة كنيستنا المقدّس، بوحي الروح القدس، مطرانًا لأبرشيّة القاهرة والسّودان في تموز 1989، ومنحَه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني الشّركة الكنَسيّة، ثمّ عيّنه زائرًا رسوليًّا على موارنة أفريقيا. فتسلّمَ رعاية الأبرشيّة من سَلَفِهِ المثلّث الرّحمة المطران يوسف مرعي، بعد تقديم استقالته ببلوغ السنّ القانوني. وقادها بغيرة "الراعي الصالح"، معلّمًا للعقيدة ومقدِّسًا للنفوس، ومدبِّرًا حكيمًا. لقد عرف خرافه، مؤمني ومؤمنات أبرشيّته واحدًا واحدًا، وزارهم في بيوتهم، وجمعهم في حلقات التعليم الأسبوعيّة التي كان ينظّمها في كاتدرائيّة مار يوسف بمنطقة الظاهر في القاهرة، وفي كنيسة مار مارون في مصر الجديدة التابعة للرهبانيّة المارونيّة المريميّة، وحلقات مماثلة في كنيسة القدّيسة تريز الطفل يسوع في الاسكندرية. كما قام بحركة روحيّة وتعليميّة لدى الكنائس الكاثوليكية الأخرى، فتميّز فيها بوجه الأسقف معلّم العقيدة، والواعظ الروحي الغيور. هذا ما يشهد عنه خَلَفاه في رعاية الأبرشية المطران فرنسوا عيد المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي الذي يشاركنا الأسى والصلاة من قرب ضريحَي الرسولَين بطرس وبولس، والمطران جورج شيحان راعي الأبرشية الحالي، الذي حضر خصّيصًا من القاهرة للمشاركة في صلاة الوداع هذه باسم كهنة الأبرشيّة وشعبها.

7. وتفانى المطران يوسف في خدمة موارنة أفريقيا، فزارهم في بلدانهم، وتعاونّا شخصيًّا معه في خدمة أبنائنا في نيجيريا وكوتونو بالبنين، وأرسلنا كهنة من أبرشية جبيل لهذه الخدمة، بالإضافة إلى الكهنة من نيابة صربا البطريركية الذين يخدمون في كلٍّ من غانا وتوغو وبوركينا فاسو ومالي، وفضلًا عن رسالتَي الرهبانية اللبنانية المارونية في كلّ من السنغال وشاطئ العاج. وهكذا تمكّنت بلدان أفريقيا الغربية والوسطى من أن تصبح أبرشيّة باسم إكسرخوسيّة لدواعٍ قانونية. فيما ظلّت أفريقيا الجنوبية التي يخدمها الآباء المرسلون اللّبنانيون الموارنة، تابعة للزيارة الرسولية بشخص الإكسرخوس سيمون فضول.

ومن بعد أن قدّم استقالته من إدارة أبرشية القاهرة والسودان لبلوغه السّن القانوني في سنة 2005، عاد إلى لبنان، وسكن بين الأهل في عبرين وكرّس نفسه للإرشاد الروحي في إكليريكية غزير البطريركية لأربعة أيّام في الأسبوع، واضعًا فيه كلَّ روحانيّته وخبرته ومحبّته لطلّاب الكهنوت.

8. الآن ويحضر المثلّث الرحمة المطران يوسف أمام عرش الله، ليسلّم وديعة خدمته الكهنوتية والأسقفية، لا بدّ من الإشارة إلى خدمة الكلمة الإلهيّة التي يتركها للأجيال في مؤلّفاته وكتاباته وترجماته البالغة ثلاثة عشر مرجعًا. وإنّا نكتفي بذكر بعضها من مثل: مدخل إلى الكتاب المقدّس، النّؤمن، شرح الأسرار، في الكنيسة نحيا لأجل المسيح، الكتاب المقدّس: تعليم وحياة، كتاب "أنا هو" الذي كان يطلب أن يقرأوا له مقتطفات منه في أيّامه الأخيرة، الإعتراف بالتّعاون مع الرّابطة الكهنوتيّة، تاريخ الكنيسة بالتّعاون مع كتّاب مصريِّين، مار يوحنا المعمدان. هذا فضلًا عن ترجمات عديدة وبخاصّة لرسائل بابويّة.

9. إنّ سيرته الغنيّة تشكّل خيرَ تعزية لنا جميعًا: لأبينا صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس، ولإخواننا السَّادة المطارنة أعضاء سينودس كنيستنا البطريركيّة المقدّس، وبخاصّة أخوَينا المطران منير خيرالله راعي أبرشية البترون، والمطران جورج شيحان راعي أبرشيّة القاهرة والسودان، وكهنة هاتَين الأبرشيّتَين، ولأعضاء الرابطة الكهنوتيّة، وأنسباء المثلّث الرحمة: عائلات المرحومين شقيقَيه وعمَّيه وعمّاته وخالِه وخالتَيه، ولكلِّ أبناء عبرين العزيزة.

عزاؤنا أنّ المطران يوسف دخل دنيانا من باب المسيح، ومن الباب عينه يدخل مجد السماء، ليكون لنا عند الله خير شفيع. ونحن، فلندخل كلَّ يوم من باب المسيح هذا، لكي نجد الخلاص وغذاء العقل والإرادة والقلب، فنسعى إلى أن يدخل كلّ إنسان وكلّ شعبنا من هذا الباب الخلاصي، لخيرهم ونموّ المجتمع وخير الوطن، بنعمة الله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، آمين.

 

المطران يوسف ضرغام

رجل الإصلاح بالصمت والصلاة

 

                                                                               المطران منير خيرالله

                                                                               28/10/2015

 

        رحل المطران يوسف ضرغام بصمت كما عاش طوال سنواته الخمس والثمانين، دون أن يزعج أحداً مسلّماً ذاته لمن كرّس حياته لخدمته، الرب يسوع المسيح.

المطران ضرغام هو ابن عبرين البترونية التي أعطت الكنيسة عشرات الدعوات الكهنوتية والرهبانية. ولد في 22 نيسان 1930 في عائلة كهنوتية ورهبانية وتربّى فيها على الإيمان والرجاء والمحبة، وفيها اكتشف دعوته وتكرّس للخدمة في الطاعة والمجانية ومن دون شروط، كما يقول هو ليلة رسامته الأسقفية: « تعوّدت منذ زمن بعيد أن أجيب بالإيجاب على كل خدمة تطلبها مني أمي الكنيسة المقدسة. فأنا تكرّست للخدمة دون شرط، وسأبقى خادم النفوس حتى رمقي الأخير: خادم التلاميذ، خادم الإكليريكيين، خادم الرعايا، وخادم الأبرشية». هكذا قضى حياته بيننا.

بدأ دروسه في مدرسة الفرير في البترون. ثم دخل المدرسة الإكليريكية في عين ورقة سنة 1944 وانتقل إلى اكليريكية مار مارون في غزير سنة 1948 حتى أنهى دروسه الثانوية سنة 1953.

ثم انتقل إلى معهد اللاهوت في جامعة القديس يوسف بيروت لدراسة الفلسفة واللاهوت (1953-1959) ونال إجازة في الفلسفة واللاهوت.

اقتبل الدرجة الكهنوتية في 12 نيسان 1959. وأرسله غبطة البطريرك بولس المعوشي إلى باريس للتخصص في جامعة السوربون التي نال منها إجازة في الأدب الفرنسي مع رسالة عن الكاتب بول كلوديل (1963).

عاد إلى لبنان وتسلّم إدارة الدروس في إكليريكية مار عبدا هرهريا؛ ثم، سنة 1965، في الإكليريكية البطريركية المارونية في غزير التي انتقلت إدارتها إلى كهنة موارنة برئاسة المونسنيور حارث خليفه بعد أن غادرها الآباء اليسوعيون إلى بيروت. وهناك راح الخوري يوسف يبرز كوجه محبّب ولامع في حضوره الكهنوتي وكمثقّف يعود دوماً إلى الكتاب المقدس. إلى أن تسلّم رئاستها في تموز 1971.

في تلك السنوات تعرفت إليه عن قرب إذ كنت قد دخلت الإكليريكية الصغرى في غزير سنة 1964 لأتابع دروسي التكميلية والثانوية. كان المدير المحبّب إلينا وأستاذ الأدب الفرنسي اللامع والرياضي المميّز، إذ كان يشاركنا في كل المناسبات، في الكنيسة وفي المكتبة وفي الملعب وعلى المائدة، ويشجعنا على الوفاء بفرح للدعوة التي يدعونا إليها الرب يسوع المسيح. وكان بالنسبة إليّ المعلّم والموجّه والأب بعطفه الخاص.

عمل مع إخوته كهنة الشمال، ومنهم بخاصة المطارنة هيكتور الدويهي ويوسف بشاره وبولس آميل سعاده وفرنسيس البيسري وفيليب شبيعه والخورأسقف بولس الفغالي والمونسنيور فرنسيس ضوميط. وانتمى معهم إلى الرابطة الكهنوتية التي تجمع نخبة الكنيسة المارونية من أساقفة وكهنة وتضع في أولوياتها تنشئة الكهنة والخدمة الرعوية قبل المجمع الفاتيكاني الثاني وبعده.

والتزم كذلك في حركة « كنيسة من أجل عالمنا» مع كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، ومنهم المطارنة جورج اسكندر وبطرس الجميّل وسمير مظلوم والأستاذ جوزف زعرور والدكتور ناصيف نصّار؛ وفي تجمّع كهنة المسيح الملك.

تسلّم رئاسة المدرسة الإكليريكية وأدخل نمطاً تربوياً جديداً يشدّد على التنشئة على الانفتاح وروح المسؤولية. وكان أن اقترح علينا نحن الإكليريكيين، وكنا في قسم الكبار، أن ننتخب واحداً من بيننا يتسلّم مسؤولية النظارة والعلاقة مع الإدارة. فوقع الانتخاب عليّ، إذ كنت أيضاً رئيساً لفوج مار مارون في كشافة لبنان الذي سعيت إلى تأسيسه بتشجيع من الخوري (المطران) أنيس أبي عاد والخوري (المطران) غي نجيم في الإكليريكية.

إلا أن هذا النمط الإصلاحي الجديد اصطدم بعد سنة بعقبات إدارية ومادّية، ما اضطرّه إلى إقفال المدرسة الإكليريكية في 12 كانون الأول 1972. فاجتمع الطلاب الإكليريكيون وذهبوا للاعتصام في بكركي مطالبين أباهم غبطة البطريرك بولس المعوشي بإعادة فتح المدرسة وبمباشرة الإصلاح في الكنيسة تطبيقاً لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني.

وسرعان ما فجّر هذا الحدث أزمة في الكنيسة المارونية وفتح الباب أمام حركة إصلاحية بدأت المطالبة بها من الطلاب الإكليريكيين اللاهوتيين في معهد اللاهوت في بيروت، ومن « تجمّع كهنة المسيح الملك» ومن حركة « كنيسة من أجل عالمنا» وغيرهم.

وكان الجواب أن أُبعد الخوري يوسف من الإكليريكية مع الكهنة الذين كانوا يعاونونه في الإدارة.

وعملاً بمبدأ الطاعة الكنسية، لم يتكلم ولم يكتب، بل ابتعد وراح يصلي ويغوص في الكتاب المقدس – أليست معظم مؤلفاته مستوحاة من الكتاب المقدس ؟ - ويخدم بصمت رعية زغرتا (1974-1975)، ثم رعايا كفرحي وبقسميا وجبلا في البترون (1976-1989).

إلى أن انتخب البطريرك انطونيوس خريش في 3 شباط 1975 ووضع في أولويات بطريركيته التنشئة الكهنوتية. فاشترى مبنى الإكليريكية في غزير من الآباء اليسوعيين واختار فريقاً من الكهنة لإدارتها وعلى رأسه الخوري يوسف بشاره بمعاونة الخوري يوسف ضرغام مرشداً (1976-1989) فعاد هذا الأخير يخدم في تنشئة الكهنة ويجدد التزامه في الرابطة الكهنوتية التي تسلّم رئاستها من الخوري يوسف بشاره الذي أصبح مطراناً لأبرشية قبرس- انطلياس. وتابع ما كانت الرابطة قد بدأته مع المطران يوسف الخوري والأب يواكيم مبارك في احتضان الأعمال التحضيرية للمجمع اللبناني الثاني، الذي سمّي في ما بعد بالمجمع البطريركي الماروني، بهدف الإصلاح عن طريق العمل المجمعي. وهنا التقيته من جديد إذ كنت قد عدت من باريس بعد تخصصي في التنشئة الكهنوتية وانتميت إلى الرابطة الكهنوتية والتزمت في المدرسة الإكليريكية في غزير وبالمسيرة المجمعية مع الأب مبارك.

في تموز 1989، وفيما كنا في خلوة للأعمال المجمعية، أُعلن انتخاب الخوري يوسف ضرغام مطراناً على القاهرة والسودان، والخوري حميد موراني مطراناً على دمشق. فسارع سيادة المطران بولس آميل سعاده، الذي كان قد طلب مني أن أكون أمين سره بعد انتخابه نائباً بطريركياً عاماً في بلاد البترون في حزيران 1986، إلى الإلحاح علي أن أترك المدرسة الإكليريكية لألتحق بأبرشيتي لأقترب منه ولأخدم الرعايا التي غادرها المطران ضرغام.

وفي 16 أيلول 1989 كانت رسامتهما الأسقفية في بكركي وفي خلالها أعلنا عن مشروع خدمتهما الأسقفية: «كلانا ذاهب إلى كنيسة الشتات. وكلمة الشتات التي نطبقها على كنيستنا في القاهرة ودمشق تعني أنها كنيسة موجودة في مجتمع غير مسيحي في أكثريته، حيث لا قدرة إجتماعية ولا تأثيراً لها على حياة الجماهير. فخدمتنا ستتمحور حول تشديد وحدة المؤمنين للحفاظ على الإيمان من جهة، لكي تكون لديهم شجاعة الشهادة لإيمانهم وللمحبة المسيحية أمام مجتمعهم، من جهة أخرى. وهذا يحمّلنا مهمة راعوية مزدوجة. أولاً، أن نجمع الرعية في جماعة متماسكة انطلاقاً من العائلة، شرط أن لا يؤدي ذلك إلى الانغلاق. وثانياً، أن نكون الوسيط بين كنيستنا في لبنان وكنيستنا في مصر وسوريا».

وهذا ما حاول جاهداً أن يقوم به المطران ضرغام في خلال ست عشرة سنة خدم فيها موارنة مصر والسودان وأفريقيا (1989-2005).

في أوائل سنة 2006 عاد إلى لبنان، بعد أن كان قد قدّم استقالته لبلوغ السن القانونية، وكان مرشداً روحياً في الإكليريكية البطريركية المارونية في غزير، دون أن ينسى بلدته عبرين وأبرشيته البترون.

وهنا أيضاً عدنا والتقينا في الخدمة، في الأبرشية وفي المدرسة الإكليريكية. وكنت أقصده مراراً للاسترشاد والإفادة من خبرته الكهنوتية والأسقفية ومن معينه الروحي المتعمق بالكتاب المقدس.

في كل تلك السنوات، لم يتغير المطران ضرغام. بقي الكاهن المتواضع والمتجرّد والمثقف. يصلّي ويكتب ويترجم الكثير من المقالات والكتب، ويلقي الرياضات والمحاضرات.

« فالأسقفية، كما يقول، ليست منصباً عالمياً ولا زعامة سياسية ولا أداة للكسب الخسيس. إنها رسالة السماء إلى الأرض؛ رسالة المسيح بالذات أسقف نفوسنا، معلّمنا ومقدسنا وراعي القطيع الحقيقي».

وبعد أن انتخبت مطراناً على أبرشية البترون، رحت أتردد عليه أكثر وأحاوره وأستلهم من تواضعه وثقافته في ما يساعدني على «الخدمة في المحبة».

وفي أيامه الأخيرة، إذ كان يعاني من المرض والألم وهو في بيته في عبرين، كان يطلب من أحد أفراد العائلة أن يقرأ له من كتابه « أنا هو» في الفصل عن « ألم وموت الأبرياء وصمةٌ وسرّ». وفيه: « آلام أيوب وآلام كل بريء لم تعدْ وصمة عارٍ، بل أصبحت سرّ خلاص بالمسيح للذين يتألمون».

وفي خلال زيارتي الأخيرة له، وقبل أن يغمض عينيه عن هذه الدنيا، كان يردّد « يا يسوع الرحوم ارحمني». ويتمتم صلاة الخوري آرس شفيع الكهنة: « أحبك يا إلهي؛ ورغبتي الوحيدة هي أن أحبّك إلى نَفَسي الأخير... وكلما اقتربتُ من نهايتي ازددتُ توسّلاً إليك أن تنمّي حبّي وتجعله كاملاً».

أما ما يبقى في إذهاننا، بعد كل ما قلناه في المعلّم والمرشد والراعي، فهي وصيته إلى الإكليريكيين: «تعلّقوا بيسوع المسيح وحده. بدونه لا تستطيعون أن تعملوا شيئاً. إنه الطريق الذي عليكم أن تسلكوه في حياتكم الكهنوتية، وليس هناك طريق آخر».    

Photo Gallery