عظة المطران منير خيرالله
عيد الميلاد - البترون وكفرحي، 25/12/2015
« لا تخافوا ! ها إني أبشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله، لأنه وُلد لكم اليوم مخلّص، هو المسيح الرب في مدينة داود» (لوقا 2/8-11).
بشرى الملاك تستوقفنا اليوم، في ميلاد 2015، وتدعونا إلى التأمل في سرّ يسوع ابن الله الذي أفرغ ذاته الإلهية وتبنّى الذات الإنسانية ليخلّص الإنسان، كل إنسان، ويرفعه إلى الألوهة.
في تمام الأزمنة، دخل ابن الله التاريخ والجغرافيا بعد أن اختار له شعباً ونسلاً وعائلة وأرضاً ليولد إنساناً حقاً ويحقق الوعد الذي قطعه الله لشعبه، بأنه سيرسل له مخلصاً هو المسيح الرب. ولكنه اختار أن يولد فقيراً حقيراً مهجَّراً على أرضه ومنبوذاً من شعبه.
« وُلد يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس الملك» (متى 2/1)، وفي أيام كان «أغسطوس قيصر» امبراطوراً في روما و« قيرينيوس حاكماً على سوريا» (لوقا 2/1).
وذلك عندما « أمر القيصر أغسطوس بإحصاء سكان الامبراطورية». « فذهب كل واحد إلى مدينته ليكتتب فيها». و« صعد يوسف أيضاً من الجليل، من مدينة الناصرة، إلى اليهودية، إلى بيت لحم مدينة داود»، ومدينته الأصلية، « ليكتتب مع مريم خطيبته وكانت حبلى. وحان وقت ولادتها، فولدت ابنها البكر وقمَّطته وأضجعته في مذود لأنه لم يكن لهما مكان في بيت الضيافة» (لوقا 2/1-7). وهذا يعني أن يوسف لم يكن يملك بيتاً في بلدته الأصلية ولم يستطع أحد من الأقرباء أن يستضيفه. فوُلد يسوع مهجّراً ووُضع في المذود، المكان الذي كان مخصصاً للحيوانات الأليفة.
وكان أيضاً غريباً ومنبوذاً، إذ لم يعترف به شعبه وأبناء سلالته مع أنهم كانوا ينتظرونه. بل آمن به الرعاة الذين بشّرهم ملاك الرب « بفرح عظيم» وأنشد معه جند السماء مسبِّحين « المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام» (لوقا 2/12-13).
وبعد الولادة « جاء إلى أورشليم مجوس من المشرق» يسألون عن « المولود ملك اليهود» ليسجدوا له. فاضطرب الملك هيرودس واضطربت معه أورشليم كلها»، لأنه خاف أن ينافسه أحد على مُلكه، وكأن ملكه باقٍ إلى الأبد. « فدعا المجوس سرّاً»، لأن المتسلّط والخائف على سلطته يتعاطى السياسة سرّاً وتحت الطاولة. وعندما تحقق من الخبر، « استشاط غضباً وأمر بقتل كل طفل في بيت لحم وجوارها، من ابن سنتين فما دون».
أما يوسف، وبوحي من الملاك، فقام وأخذ الطفل وأمه « وهرب إلى مصر» وأقام فيها إلى أن «مات من كان يريد إهلاك الطفل» (متى 2/2-20).
اختار يسوع، وهو الإله والملك والغنيّ أبداً، أن يولد في أحقر درجات الإنسانية ويحمل الفقر والتهجير والغربة ليشمل البشرية كلها بفقرائها ومستضعفيها ومظلوميها ومهجَّريها وسلاطينها وحكامها وأغنيائها ويرفعها إلى مستوى الألوهة. إنه سرّ الحب المطلق. سرّ الله الذي أراد من فيض محبته للإنسان أن يتأنس ليتأله به الإنسان، كما يقول آباء الكنيسة؛ إنه سرّ ابن الله الذي صار ابن الإنسان لكي يتسنّى لكل إنسان أن يصبح ابناً لله.
خربط يسوع بولادته كل الحسابات السياسية في التاريخ وكل تقسيم الحصص في الجغرافيا، إذ اتخذ لها مسرحاً لا بيت لحم اليهودية فقط، بل كل مساحة الامبراطورية الرومانية التي كانت تحكم بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط غرباً وشرقاً حيث كانت شعوبها ترزح تحت نير الاحتلال وتتمنى أن تتحرر وهي تدفع الثمن بمقتل أبنائها وأبريائها.
هذا في الأمس؛ أما اليوم، وما أشبه اليوم بالأمس، فولادة يسوع تخربط حسابات القوى العظمى على مساحة الكون وتفشّل اتفاقاتها السرّية بينما يظهر هيرودسيون جدد يتحدّون كل الدول والحكام ويأمرون بقتل الأطفال والكبار والجنود وبحجز النساء وبتهجير الشعوب، ويظهر بيلاطسيون جدد يغسلون أيديهم ويعلنون براءتهم... وكل ذلك خدمةً لمصالحهم لا غير.
وبين القوى العظمى وحساباتها وقوى التطرف على أرض الواقع، لا تزال الشعوب المغلوب على أمرها في سوريا والعراق وفلسطين ولبنان تدفع الثمن دون أن تحصل على حرية تقرير مصيرها وعلى السلام المنشود.
وفي تداخلات هذه الأحداث، يولد يسوع سنة 2015 في الشعوب الفقيرة والمستضعقة والمحرومة والمظلومة.
يولد يسوع في ملايين المهجّرين والنازحين واللاجئين والهاربين من الطغيان والاستبداد والتعصّب والانتقام في العراق وسوريا وفلسطين، الذين راحوا يدقّون أبواب أوروبا وأميركا وأستراليا بعد أن كانوا وجدوا لهم مأوىً ومذوداً آمِناً في لبنان والأردن وتركيا !
يولد يسوع ونسمع ملاك الرب يبّشرنا من جديد بالفرح العظيم وبالسلام الآتي. فهل نؤمن بهذه البشرى ؟
هل نؤمن بأن الفرح والسلام هما من الرب يسوع المسيح الباقي معنا إلى الأبد بينما سلاطين هذا العالم هم العابرون؟
هل نجرؤ على نقل هذه البشرى إلى شعبنا لنقول له إننا بولادة المسيح ملك المحبة والسلام نتخطّى مصالحنا الضيّقة وانتماءاتنا وخصوصياتنا لننفتح على شعوب العالم ونقول لهم: إن المسيح افتدانا جميعاً، وإن البشرية مخلّصة بالمسيح، وإنها محبوبة من الله الآب ؟
هل نجرؤ على أن نبشر العالم أنها علامةٌ من الله أن نعيّد معاً هذه السنة، مسيحيين ومسلمين، وهي مناسبة نادرة جداً ؟ وأنها مناسبةٌ للّقاءِ والتحاور نشهد فيها على احترامنا لتعددية انتماءاتنا وعلى تقديرنا لبعضنا البعض، وأن العيش معاً ممكنٌ في زمنٍ يرتكب فيه البعضُ، باسم الدين وباسم الله، مجازر بحق الإنسانية؟
هل نبشّر بأن يسوع المخلّص هو علامةٌ ونعمةٌ ورحمةٌ لجيمع البشر وهو ملك السلام ؟
تعالوا إذاً نتقارب ونتحاور ونتعاون لنبني معاً السلام، سلام الله لا سلام البشر !