عظة المطران منير خيرالله
في قدّاس عيد الطوباوي الأخ اسطفان نعمه
في دير قبريانوس ويوستينا 30/8/2016
« أما يحقّ لي أن اتصرّف بأموالي كما يحق لي» (متى 20/15).
الأب الرئيس وجمهور الدير
إخوتي كهنة الابرشيّة وخدّام رعايانا وأخويّاتنا في كلّ فروعها، الأخويّات الأمّ والشبيبة والطلائع والفرسان
إخوتي الكهنة مرشدي كشّافة لبنان أتيتم من كلّ الأراضي اللبنانيّة
أحبّائي جميعًا وزوّار هذا الدير
في الإحتفال بعيد الطوباويّ الأخ اسطفان نعمه لنا اليوم وقفة ضمير أمام ذواتنا وأمام الله لنتّخذ أمثولة من حياة الأخ اسطفان. كلمة الله أوّلًا، التي يوجّهها الينا السيّد المسيح في هذا العيد، تجعلنا ننتفض على منطق الله وعلى طريقة تعامله مع البشر. مَثَلُ العملة الذين استأجرهم ربُّ البيت ليعملوا في كرمه. وعند الحساب في المساء كانت الثورة على ربّ البيت:» لماذا أعطيت فعلة الساعة الخامسة، الساعة الأخيرة، كما أعطيتنا. لماذا ساويتهم بنا؟». هذا هو منطق البشر، منطق الضعف في عبودية الخطيئة. بينما منطق الله هو منطق المحبّة، وعدالة الله هي عدالة المحبّة، ورحمة الله هي نتيجة محبّته المطلقة للبشر أجمعين. إنّه يوزّع خيراته ونعمه وعطاياه على كلّ الناس، علينا جميعًا. وفي منطقه هو إنّه يساوي في ما بينهم لأنّه يريدهم معه في الخلاص وفي الملكوت؛ وهناك في الملكوت لا فرق بين من يعمل طوال النهار ويتحمّل تعبه وحرّه وبين من يعمل ساعة واحدة. يريدهم أن يدخلوا جميعًا الى ملكوته. هذه هي عدالته؛ لأن هناك لا مكان لمنطق البشر منطق الضعف نتيجة الخطيئة. فالمحبّة تساوي الجميع لأنّها تحبّ بدون مصلحة وبلا حدود. المحبّة تعطي ذاتها حتّى النهاية. هكذا عاملنا ربّ المحبّة والرحمة بأنّه بذل ابنه يسوع المسيح موتًا على الصليب لفداء جميع البشر. من أتى أوّلًا ومن أتى آخرًا. المسيح مات من أجل الجميع؛ هذه هي محبّته ورحمته. هل نريد أن نفهم منطق الله ونتخلّى عن منطقنا البشريّ في التعامل مع الله وفي التعامل مع بعضنا البعض؟
هذا هو المنطق الذي تعامل به رسل المسيح وتلاميذه. هذا هو المنطق الذي تعامل به أبونا مار مارون الذي وضع روحانيّة مميّزة في كنيسة انطاكيا تبعها تلاميذه ورسله وأتوا الى هذه الأرض المقدّسة ليتقدّسوا فيها ويقدّسوا شعبهم. هذه الروحانيّة هي روحانيّة نسكيّة تقوم على عيش النسك في الحياة اليوميّة في بُعدَيْه العمودي والأفقي. النّسك في بعده العموديّ في العلاقة المباشرة مع الله في الحياة على قمم الجبال. والحياة على قمّة الجبل تُبعدنا عن العالم دون أن تفصلنا عنه وتقرّبنا من الله. الحياة على قمّة الجبل تجعلنا نتحدّى كلّ صعوبات الزمن ونتحمّل كلّ شيء ولا نُفَتِّش عن ملذّات هذه الدنيا وما فيها. نتخلّى عن كلّ شيء على قمّة الجبل. الحياة النسكيّة في بُعدها العموديّ في العلاقة مع الله هي حياة صلاة وسهر وتقشّف، حياة وقوف مستمر لنبقى واقفين وساهرين. هكذا طلب منّا المسيح.
أمّا النسك في بعده الأفقيّ فهو علاقة مع البشر، علاقة محبّة، علاقة خدمة، علاقة تضحية وانفتاح على جميع الناس من دون مصلحة شخصيّة، في التخلّي عن الأنانيّة.
جَمَعَ مارون في الروحانيّة النسكيّة بين البُعد العموديّ والبُعد الأفقيّ. فكانت الروحانيّة المارونيّة روحانيّة الصليب، الصليب الذي مات عليه المسيح معلّقًا بين الأرض والسماء ليفتدي البشر وليرفع البشر الى السماء الى ألوهيّته ليجعل منهم أبناء الله.
هكذا فهم تلاميذ مارون الذين اتوا الى هذه الجبال التي نعيش نحن عليها اليوم وعاشوا روحانيّتهم وقدّسوا الشعب الذي بشّروه بالمسيح المصلوب لأجلنا. تعلّقوا بحياتهم وباتصالهم المباشر بالله وتعلّقوا بأرضهم التي تعبوا فيها وعملوا فيها وحوّلوها الى جنّات بضربة معدورهم لكي يلتصقوا بها لأنّهم اعتبروها أرضًا وقفًا لله أرضًا مقدّسة. هذه الروحانيّة عاشها القدّيس شربل بعد الكثيرين من قبله في جبالنا وودياننا. وعاشها أيضًا الأخ اسطفان الذي نعيّد له اليوم. الفرق الوحيد أن الأخ اسطفان عاش هذه الروحانيّة بالتصاقه بالأرض التي عمل فيها وتعب عليها، ودعا الجميع، دعا اخوته الرهبان، الكهنة وغير الكهنة، ودعا جميع من كان حوله في منطقتنا من بلداتنا ورعايانا، دعاهم الى الإلتصاق بالأرض والى تسبيح الله وتمجيده. فالمسبحة كانت رفيقته مع المعول. كان يصلّي وكان يعمل. وإذا كانت الكنيسة قد طوّبت الأخ اسطفان، فلأنّها طوّبت أسلوبه في الوصول الى السماء؛ في روحانيّته في بعدها العموديّ في الصلاة الى الله وفي بعدها الافقيّ في العلاقة مع الناس والالتصاق بالأرض. هل نفهم نحن اليوم ما يطلبه منّا السيّد المسيح وما يطلبه منّا الأخ اسطفان باسم إخوته الرهبان والراهبات، باسم شعبه المارونيّ وباسم كنيسته المارونيّة؟ هل نفهم ما يطلبه منّا اليوم؟
شعاره « الله يراني». ولأن الله يراني فإنّ حياتي مفتوحة عليه وعلى إخوتي البشر. إنّها دعوة الينا جميعًا، الكبار والصغار، الآباء والأمّهات؛ دعوة الى الملتزمين في الحياة الكنسيّة، في الاخويّات وفي غيرها من الجمعيّات الكنسيّة؛ دعوة الى كلّ عائلة من عائلاتنا كي تفهم رسالتها ودعوتها وتربّي أجيالنا، أطفالنا وشبيبتنا، تربّيهم على تلك القيم وعلى تلك الروحانيّة. إنّها دعوة الينا جميعًا، نحن الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات بنوع خاص، للعودة الى جذورنا الروحانيّة والى أصالتنا وتقاليدنا لكي نتمثَّل بها اليوم لنكون شهودًا للمسيح في حياتنا وأعمالنا أكثر منه في كلامنا.
من هنا فحص الضمير لنا ولكم. ومن هنا وقفة توبة نقفها أمام الله باسم كنيستنا التي تعاني اليوم ما تعانيه. وباسم وطننا لبنان الذي يمرّ في عاصفة هوجاء. لكن اطمئنّوا ليست الاولى في تاريخنا. فكما صمد وطننا، هذا الوطن الرسالة، وكما صمدت كنيستنا على مرّ الأيّام الأجيال في مواجهة السلطنات والامبرطوريّات والحكومات التي أرادت أن تدمّر وتقتل وتهجّر وتحتلّ، شاهدةً أنّها أرض القداسة ولتبقى كنيستنا شاهدةً دومًا أنّها كنيسة المسيح وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
لا تخافوا! لا تخافوا! نحن أقوياء بقدّيسينا لأنّهم يشفعون بنا من السماء. نحن أقوياء بعائلاتنا المباركة والمقدّسة التي أعطت قدّيسين وستبقى تُعطي قدّيسين. نحن أقوياء بالقيم التي سنحافظ عليها ونربّي أولادنا عليها، مهما قست علينا الايّام. نحن أقوياء بإرادتنا، بإيماننا، برجائنا بالمسيح. سنتوحّد من جديد ونتضامن بروحانيّتنا النسكيّة المارونيّة لكي نعيد بناء دولتنا ومؤسّساتها، وبناء وطننا لبنان فتستمرّ كنيستنا، ونحن الكنيسة، شاهدةً للمسيح على أرض المسيح. آمين.