عظة المطران منير خيرالله
في احتفال عيد مار مارون في كاتدرائية مار مارون- مونتريـال- كندا
الأحد 12/2/2017
نيافة الكاردينال لاكروا رئيس أساقفة كيبيك
سيادة السفير البابوي في كندا المطران لويجي بوناتزي
أصحاب السيادة
أخي المطران بول مروان تابت راعي أبرشية مار مارون في كندا
إخوتي وأخواتي أبناء مارون في كندا وأبناء الجالية اللبنانية والعربية في كندا
أحيّي باسمكم جميعًا، وعبر وسائل الإعلام والتواصل، أبانا صاحب الغبطة والنيافة مار بشاره بطرس الراعي، البطريرك السابع والسبعين، وإخوتي المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات وأبناء وبنات مارون أينما كانوا. كما أحيّي المسؤولين السياسيين والمدنيين الكنديين، لا سيما وزيرة التراث، وسعادة القائم بالأعمال اللبناني في كندا وسعادة القنصل العام اللبناني في مونتريـال.
فرحتي كبيرة أن أنقل إليكم اليوم، في بداية « سنة الشهادة والشهداء في الكنيسة المارونية» التي أعلنت منذ بضعة أيام في الكنيسة المارونية، جزءًا من ذخيرة مار مارون المحفوظة في المقرّ البطريركي الأول دير مار يوحنا مارون- كفرحي لتكون محطّ تكريم المؤمنين في كاتدرائية مار مارون- مونتريـال.
إنها مناسبة فريدة لتجديد التزامنا بالشهادة للمسيح في كل الظروف، ودعوة للعودة إلى جذورنا الروحانية ومبادئ التأسيس الأول مع مار مارون والتأسيس الثاني مع مار يوحنا مارون ومسيرة التأسيس الثالث التي توّجت مع البطريرك الحويك.
التأسيس الأول، الروحي، كان مع مار مارون الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس (350-410)، والذي كان ناسكاً وكاهناً. كل ما نعرف عنه أنه تجرّد عن كل شيء في هذه الدنيا وراح يعيش حياةً نسكية على قمم جبال قورش- قرب أنطاكية، وفي العراء ويقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي عاش عليها. أعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية. فتقاطر إليه الناس طالبين نصائحه وتوجيهاته لكي يعودوا إلى ربهم عبر قبول الأسرار، لا سيما سرّ التوبة. جمعت روحانية مارون النسكية بين البُعد العمودي في العلاقة مع الله وبين البُعد الأفقي في العلاقة مع الناس والانفتاح الرسولي. إنها روحانية الصليب الذي عليه مات المسيح واصلاً الأرض بالسماء والبشرية بالله.
لدى موته سنة 410 كان قد تتلمذ الكثيرون على يده. وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضعها. ومنهم من بقوا في سوريا، مائتي سنة قبل مجيء الإسلام، وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرُها دير مار مارون على ضفاف العاصي الذي لعب رهبانه دورًا هامًا في المجمع المسكوني الرابع في خلقيدونيه ( سنة 451) وبعده. ومنهم من هجروا إلى جبال لبنان، فسكنوا جرود جبيل والبترون والجبّة، من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الأيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار. فبنوا الأديرة وجعلوا منها منارةً لنشر القيم المسيحية والثقافية والعلم. وتجمّع حولهم الناس حتى دُعوا بـ « شعب مارون» أو بـ « بيت مارون». « لم يأتوا إلى جبل لبنان لاجئين ولا فاتحين، بل أتوه نساكًا ومرسلين»، كما يقول الأب يواكيم مبارك.
التأسيس الثاني، الكنسي، كان مع يوحنا مارون الذي جمع أبناء مارون وأسس معهم، في أواخر القرن السابع، البطريركية المارونية ونظمها في كنيسة قائمة بذاتها في جبل لبنان ضمن كنيسة أنطاكيه وأعطاها استقلالية نوعية ضمن الامبراطورية العربية الإسلامية في أيام الأمويين.
واتّبع الموارنة معه ومن بعده مقومات الروحانية التي تركها لهم الآباء المؤسسون والتي حاولت تطبيق الإنجيل بصرامة في حياة زهد ونسك وصلاة وتبشير. وتميّزت تلك الروحانية بحياة متكاملة جمعت في الشهادة للمسيح بين النسك والرسالة. فعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على ثوابتهم، أي حريتهم وثقافتهم، وارتباطهم بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها، وتعلّقهم بأرضهم وبالقيم التي تربّوا عليها، وانفتاجهم على الشرق والغرب. ونجحوا في جعل جبل لبنان معقلاً للحريات استقبلوا فيه الشعوب المضطهدة، من مسيحيين ومسلمين، وعاشوا معًا في التفاهم والاحترام المتبادل؛ ولم يخَفَوا من أن يكونوا بينهم مثل الملح أو الخميرة.
أما التأسيس الثالث، الوطني، فبدأ مع الموارنة الذين عملوا مع اخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتين المعنية والشهابية؛ وكانوا رواد الاستشراق في الغرب والاستغراب في الشرق بفضل تلامذة المدرسة المارونية في روما، ورواد النهضة العربية بفضل تلامذة مدرسة عين ورقة، وذلك بقيادة بطاركتهم، لا سيما البطريرك اسطفان الدويهي (1670-1704)، وبدفع من الاصلاح الذي قرره المجمع اللبناني (1736).
في بداية القرن العشرين، وبقيادة البطريرك الياس الحويك، تجرّأ الموارنة بالتعاون مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين على رفع التحدي الكبير في الشرق الأوسط، ألا وهو تأسيس « دولة لبنان الكبير» سنة 1920، الذي أصبح سنة 1943 الجمهورية اللبنانية، أي الوطن الذي يجمع بين سبع عشرة طائفة تعيش في الحرية والديمقراطية والعيش الواحد في احترام التعددية الدينية والإتنية والثقافية والسياسية، والذي دعاه البابا القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1991 « الوطن الرسالة ».
في حصيلة هذه المسيرة الطويلة، نستخلص أولاً « أن المارونية هي في أساسها حركة روحية نسكية غير مرتبطة بأرض ولا بعرق ولا بقومية ولا بلغة. فهي منذ البدء فلسفة حياة العراء، إذ لا بيت لصاحبها إلا الهواء ولا سقف له إلاّ السماء. كل ذلك لأن مؤسس المارونية هو راهب قديس. ففي القداسة بدايتها، وفي القداسة ضمانتها، وفي القداسة استمراريتها، وبدون قداسة نهايتها»، كما يقول الأب ميشال الحايك.
ونستخلص ثانيًا أن أبناء مارون ساهموا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين في تأسيس لبنان وطن الحريات، ولكنهم لم يحتفظوا به لهم وحدهم ولم يريدوه يومًا وطنًا قوميًا للموارنة أو للمسيحيين.
ونستخلص ثالثًا أن أبناء مارون كانوا رواد الثقافة والحداثة في محيطهم العربي والاسلامي. وفي مسيرة انتشارهم المستمر، تجرّؤا منذ بداية القرن السادس عشر أن يطرقوا أبواب أوروبا وأفريقيا والاميركيتين واستراليا حيث تعيش اليوم الغالبية العظمى من الموارنة.
أما اليوم، وفيما نحن أبناء مارون، نعيّد لأبينا الروحي نقف أمام الله وأمام ذواتنا لنصلي ونعلن قناعاتنا:
إننا نجدّد اليوم التزامنا بالدعوة التي دعينا إليها منذ البدء، أي إلى القداسة، بالرغم من تصاعد موجة التعصب والتطرف والإرهاب. إننا نجدد التزامنا بعيش مقومّات روحانيتنا النسكية بالتجرّد عن كل ملذات الدنيا وإغراءاتها وبنقلها من عمق وادي قنوبين إلى قلب بيروت وباريس ونيويورك ومكسيكو وسان باولو وسيدني ومونتريـال.
وإننا نجدّد اليوم انتماءنا إلى كنيستنا الانطاكية وإلى محيطنا الطبيعي في العالمين العربي والإسلامي، ونجدّد ولاءنا لأوطاننا الأصلية والجديدة، ومنها كندا؛ لأن كندا ولبنان يحملان معًا رسالة الدفاع عن الحرية والكرامة واحترام التعددية.
ونؤكد أخيرًا أننا ننشد الحرية لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعددية الدينية والثقافية والحضارية التي تميّزنا، ونجدّد انفتاحنا على الغرب وثقافته واتحادنا مع الكنيسة الرومانية الممثلة بالكرسي البطرسي وبالجالس عليه اليوم قداسة البابا فرنسيس.
ولا يسعني أخيرًا إلا أن أتوجه بالتقدير إلى أخي المطران بول مروان وإخوتي مطارنة الانتشار الماروني في العالم للجهود التي يبذلونها، بالشراكة مع مجمع أساقفة كنيستنا التي يرأسها صاحب الغبطة والنيافة مار بشاره بطرس الراعي، لإعلان الإنجيل في الكنيسة الجامعة بنكهة مارونية.