عظة المطران منير خيرالله
في عيد مار يوحنا مارون
الأحد 5 آذار 2017، دير مار يوحنا مارون- كفرحي
« أنتم ملح الأرض.... أنتم نور العالم» (متى 5/13-17).
صاحب المعالي الشيخ بطرس حرب،
سعادة النائب الأستاذ سامر سعاده،
حضرة ممثل سعادة النائب الأستاذ انطوان زهرا،
سعادة القائمقام،
حضرة المدراء العامون والقضاة والهيئات السياسية والبلدية والإجتماعية والثقافية،
أيها الأحباء.
أنقل إليكم تحية غبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي، خليفة مار يوحنا مارون السابع والسبعين، وتحية أخي وأبي الروحي المطران بولس آميل سعاده الذي سيعود إلينا سريعًا بإذن الله.
يكتسب عيد مار يوحنا مارون، البطريرك الأول وشفيع أبرشيتنا، معنىً مميزًا هذه السنة إذ يندرج في بداية سنة الشهادة والشهداء التي أعلنها صاحب الغبطة والنياقة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي وقد ابتدأت في 9 شباط الفائت عيد أبينا مار مارون وتنتهي في 2 آذار 2018 عيد أبينا مار يوحنا مارون.
والكنيسة المارونية، بعد مارون ويوحنا مارون ومع سلسلة البطاركة العظام والنساك، هي كنيسة الشهادة والشهداء إذ تبنّت على خطى مار مارون الروحانية النسكية التي تتميّز ببعدين متكاملين: البُعد العمودي في العلاقة مع الله والبُعد الأفقي في العلاقة مع البشر؛ وهي روحانية الزهد في العالم للارتقاء إلى الله، والانفتاح على الانسان لعيش المحبة في التضحية حتى بذل الذات.
في عيش الشهادة لإيمانهم بالمسيح، ابن الله المتجسّد انسانًا ليساوي الإنسانية بألوهيته والمائت على الصليب ليفتدي البشرية ببذل ذاته محبةً بها والقائم من الموت ليجعل من كل انسان ابنًا لله محرّرًا من عبودية الخطيئة والموت، انتشر تلاميذ مارون في منطقة قورش وأفاميه وأنطاكيه وبنوا الكنائس والأديار، ومن أكبرها وأهمها على الإطلاق دير مار مارون على العاصي. ومنهم من قصد جبال لبنان واستوطنوا جرود جبيل والبترون وجبّة بشري سالكين مجرى نهر العاصي، وهو النهر الوحيد العاصي على الطبيعة، بعكس مساره؛ إذ انطلقوا من مصبّه في البحر شمال سوريا صعودًا شرقًا ثم جنوبًا إلى منبعه قرب الهرمل، وبنوا أديرتهم على ضفافه قبل أن ينتشروا في كل الاتجاهات ويكوّنوا « شعب مارون» ويُكنَّوا «ببيت مارون». إلى أن أتى يوحنا مارون في أواخر القرن السابع وأسس الكنيسة البطريركية المارونية.
يوحنا مارون هذا الآتي من أنطاكيه، وبعد تربيته المسيحية في مدارس أنطاكيه والقسطنطينية، زهد في العالم وترك كل شيء ودخل إلى دير مار مارون العاصي، ولبس ثوب الرهبانية، ثم رُقِّي إلى درجة الكهنوت وسُمِّي مارون نسبة إلى الدير الذي ترهّب فيه.
سنة 676 عُيّن أسقفًا على البترون، الأبرشية التي كانت تضّم كل أبناء مارون في جبل لبنان. « فدخل جبل لبنان وتجّمعت إليه الناس من غريب وقريب، كما يكتب البطريرك اسطفان الدويهي في تاريخ الأزمنة، إلى أن صاروا شعبًا عظيمًا عمّ كل بلدان الشام».
في أواخر القرن السابع، نادى به الشعب والإكليروس بطريركًا على أنطاكيه. فأسس الكنيسة البطريركية على إسم مار مارون ونظّمها كنسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمّن لها استقلالاً ذاتيًا في قلب الكنيسة الانطاكية وضمن نطاق الامبراطورية العربية الاسلامية. ما سهّل للموارنة أن يبنوا عالمهم الخاص في جبل لبنان ولكن دون أن يتقوقعوا على ذاتهم أو أن يتعدّوا على الآخرين. فاتّبعوا بعد يوحنا مارون مقوّمات روحانيتهم النسكية وعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان زاهدين في العالم وملذاته وإغراءاته ومتحمّلين على مرّ الأجيال أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على ثوابتهم الأربعة الغالية، أي:
1- حريتهم في عيش إيمانهم بالله والتعبير عن آرائهم،
2- تعلّقهم بأرضهم المقدسة التي سقوها من عرق جبينهم،
3- ارتباطهم بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها،
4- ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب.
فنجحوا في جعل جبل لبنان معقلاً للحريات واستقبلوا فيه كل الشعوب المضطّهدة، من مسيحية وإسلامية، وعاشوا معًا في التفاهم والاحترام المتبادل، بالرغم من الأزمات والحروب المفتعلة من السلطنات المحتلّة.
ثم نجحوا في تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز. وتوصّلوا معًا إلى أن ينالوا سنة 1920 إعلان دولة لبنان الكبير بقيادة البطريرك الياس الحويك وسنة 1943 استقلال لبنان الجمهورية والوطن الرسالة والنموذج لكل بلدان العالم وشعوبها.
أما لماذا اختار ابناء مارون المجيء إلى جبل لبنان، فذلك « لأنه الجبل الذي يسكن فيه أولياءُ الله تلبيةً لدعوةٍ منه»، كما يقول البطريرك اسطفان الحويهي؛ وقد « أتوه لا كلاجئين وفاتحين، بل نساكًا ومُرسَلين»، كما يقول الأب يواكيم مبارك.
لقد ارتضى الموارنة، في تبنّيهم الحياة النسكية بعد مارون ويوحنا مارون، أن يخوضوا المغامرة مع الله حتى النهاية دون أي غشّ، وقبلوا التضحية بالذات لأن روحانيتهم النسكية هي روحانية الصليب. فَهِموا أن التضحية بالحياة ليست خسارة لها بل هي على العكس ربح جديد لها بقدر التضحية بها.
وكانوا يقصدون « الارتفاع حيث يشخص نظرهم إلى ذاك الجبل الذي أراده الله لهم موطنًا»، كما يقول الأب ميشال الحايك، كي يكونوا في علاقة روحية عمودية معه. فحملوا صليبهم مع المسيح وراحوا يرتفعون به صعودًا حتى التضحية بالذات، حتى الارتقاء إلى الله. وتخلّوا عن أمور الدنيا وزهدوا بها. ولم يرضوا التعامل معها إلا من خلال علاقتهم مع إخوتهم البشر إلى أي دينٍ أو طائفةٍ أو جنسٍ أو عرقٍ أو ثقافةٍ انتموا. إنه البُعد الأفقي والرسولي في روحانيتهم النسكية. ما سمح لهم بالانتشار السهل إلى الوديان ثم إلى السواحل وإلى أبعد من البحر، إلى كل أصقاع العالم حيث هم منتشرون اليوم.
أحبائي أبناء وبنات أبرشية البترون،
إخوتي الموارنة واللبنانيين في أي بقعة من العالم أنتم قائمون،
مار يوحنا مارون يدعونا اليوم في عيده إلى الزهد في العالم فيما نحن نعيش في قلب العالم ونواجه تحدّياته، إلى الارتقاء إلى الله وإلى جبل الله حيث يسكن أولياؤه قديسونا ونساكنا، وإلى قبول التضحية في سبيل خدمة الخير العام كي يبقى لبنان وطن الرسالة في العيش معًا بالحرية والكرامة واحترام التعددية.
يدعونا مار يوحنا مارون إلى العودة إلى جذورنا وأصالة إيماننا والحفاظ على ثوابتنا من أجل تأدية الشهادة بالمحبة والبذل والتضحية تكريمًا للآلاف من شهدائنا الذين بذلوا حياتهم كي نبقى نحن مرفوعي الرأس.
أيها الرب يسوع، نصلّي إليك اليوم ونحن تائبون. فاقبل صلاتنا بشفاعة مريم والدة الإله وسيدة لبنان، واجعل من مار مارون ومار يوحنا مارون وجميع قديسينا مثالاً لنا وقدوةً. واجعل من بطريركنا ومطارنتنا وكهنتنا ونساكنا ورهباننا وراهباتنا ومسؤولينا السياسيين والمدنيين وشبابنا والآباء بيننا والأمهات مشاريع قداسة في عيش الروحانية النسكية شهادةً لك ولأبيك ولروحك القدوس، الإله الواحد له المجد إلى الأبد. آمين.