عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد القديسة ريتا
البترون، 21/5/2017
« فلم يفهم الرسل من هذه الكلمات شيئًا» (لوقا 18/34)
في ليلة عيد القديسة ريتا، يدعونا يسوع، كما دعا الرسل الاثني عشر، كي يردّد علينا الكلمات نفسها التي قالها لهم: « ها نحن صاعدون إلى أورشليم، فيتّم كلُّ ما كَتَبَ الانبياء في شأن ابن الإنسان: فسيُسلمُ إلى الوثنيين فسيسخرون منه ويشتمونه، ويبصقون عليه، ويجلدونه فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم» (لوقا 18/31-33).
« فلم يفهم الرسل من هذه الكلمات شيئًا» (لوقا 18/34)، لأن هذه الكلمات تتخطّى منطق البشر. وفي منطق البشر، نحن أيضًا نقول مع الرسل: أنت ابن الله؛ فكيف لك أن تُصلب وتموت، وأنت الحياة ؟ هذا مستحيل وغير معقول ! لكن يسوع يثبّت ما قاله، لأنه من أجل ذلك تنازل من ألوهيته وصار إنسانًا وتبنّى إنسانيتنا وحمل ضعفنا وخطايانا وارتضى أن يموت في سبيل فدائنا لأنه يحبّنا. ارتضى أن يموت على الصليب ليُظهر لنا أنه حقيقةً إلهُ الحياة، وأن الإنسان بعد الموت يقوم إلى الحياة الأبدية. هذا هو منطق الإله الذي يحبّنا، فصار إنسانًا مثلنا لأنه يحبّنا، ومن يحبّ يقبل أن يبذل ذاته في سبيل من يحبّ. « وما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه» (يوحنا 15/13).
يسوع هو أول من بذل نفسه في سبيلنا. فتح لنا طريق الحياة مرورًا بالموت. فالموت، مع موت المسيح، أصبح عبورًا، لا نهايةً، عبورًا إلى الحياة، الحياة الأبدية. وهكذا كل من يؤمن بالمسيح يفهم هذه الكلمات بمنطق الحب، ويصبح أقوى من الموت ويدخل الحياة مع المسيح.
هذا هو إيماننا، إيمان الكنيسة الذي وصل إلينا بعد ألفي سنة، وعلينا أن نشهد له كما شهد الرسل والتلاميذ بعد حلول الروح عليهم. لأن الروح القدس الذي حلّ عليهم يوم العنصرة فتح قلوبهم وأذهانهم وفهموا ما كان يقوله لهم السيد المسيح في حياته بينهم وفي تعليمه.
نحن اليوم مدعوون إلى أن نجدّد إيماننا ونعلنه ونشهد له كما فعل الشهود والشهداء والقديسون منذ تأسيس الكنيسة حتى اليوم. وستبقى هذه الشهادة مسؤولية ورسالة كل واحد منا طالما أن المسيح حاضر معنا إلى الأبد: « وهاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم» (متى 28/20).
والقديسة ريتا هي أحد هؤلاء الشهود؛ شهدت في حياتها أن إيمانها وثقتها بالله أقوى من كل صعوبات وتحديات الزمن؛ أقوى من الألم والحقد والبغض والثأر. عرفت كيف تسلّم ذاتها بحبّ كبير إلى مشيئة الله. ونعرف كم عانت أولاً مع زوجها ثم مع ولديها كي لا يثأروا لموت والدهم. ثم دخلت الدير لتكرّس ذاتها لعلاقة روحية مميّزة مع يسوع؛ وطلبت أن تشاركه آلامه على الصليب. فكانت شاهدةً للمحبة حتى النهاية.
نجتمع اليوم في مراز القديسة ريتا لنجدّد إيماننا بالرب يسوع ولنتّخذ من القديسة ريتا مثالاً وقدوةً. فهي في حياتها كانت تطمح إلى الاتحاد بيسوع. وهي اليوم تدلّنا إلى يسوع وتقودنا إليه وليس إلى ذاتها. فالقديسون والشهود في الكنيسة لا يشهدون لأنفسهم ولا يريدون أن نؤمن بهم، بل أن نشهد للمسيح ونؤمن به، وأن نتخّذهم مثالاً وقدوة وطريقًا للوصول إلى الحياة مع يسوع.
فلنطلب الليلة من الله بشفاعة القديسة ريتا نعمةَ أن نتّحد به وأن نقول نعم لتتميم مشيئته. هكذا فعلت مريم أم يسوع وأم الكنيسة وأمنا، وقالت منذ البداية: « ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك» (لوقا 1/38). فعاشت بتواضع وبساطة وصمت وكانت تحفظ كل هذه الأمور في قلبها. كل ذلك لأنها آمنت بكلمة الله. فراحت تدلّ الناس والمؤمنين إلى إبنها يسوع المسيح الإله والإنسان. وهكذا فعلت القديسة ريتا.
نحن هنا الليلة لنصلّي، لا للقديسة ريتا كونها شفيعة الأمور المستحيلة، بل لنصلّي إلى الله لأنه وحده إله المستحيلات ولنسلّمه نوايانا وهمومنا وآلامنا بشفاعة القديسة ريتا التي تقودنا إلى يسوع، وهو يطلب من الآب أن يستجيب طلباتنا. انتبهوا ! الخطأ هنا ممنوع ! القديسون هم علامات تدلّنا وتقودنا إلى الله، الآب والابن والروح القدس، إله المحبة المطلقة والرحمة والمغفرة.
فلنقبلْ أن نحمل صليبنا مع يسوع، كما فعلت القديسة ريتا، لأنه هو رجاؤنا وخلاصنا؛ فنواجه بإيمان وثقة تحديات هذا الزمن وصعوباته مهما كبرت، ونصل بشفاعة القديسة ريتا إلى مجد القيامة مع يسوع وإلى حضن الله الآب عندما نعبر من هذه الحياة الفانية.
كلّنا إلى القداسة مدعوون ! وكل واحد منا قادر أن يكون قديسًا في حياته اليومية وفي ما يعاني من آلام. وهذا ما تطلبه لنا القديسة ريتا وأمنا مريم لننال معهما الحياة الأبدية. آمين.