عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد تجلّي الرب
في أرز تنورين، السبت 5/8/2017
« حيث يكون روح الرب، هناك تكون الحرية» (2 قور 3/17)
حضرة الآباء الأجلاّء،
أحبائي جميعًا أبناء وبنات تنورين والأصدقاء.
« حسنٌ لنا أن نبقى هنا» (مرقس 9/5).
اختار يسوع الوقت المناسب ليتجلّى في مجده الإلهي، واختار ثلاثة من الرسل، بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعد بصحبتهم إلى قمة جبل، قمة جبل حرمون التي هي امتداد لجبال السلسلة الغربية من جبال لبنان التي نحن عليها اليوم.
وعلى قمة الجبل أظهر يسوع سرَّه الإلهي.
لماذا اختار قمة الجبل ؟ لأن قمة الجبل تقرّبنا من الله وتضعنا في علاقة مباشرة معه. تمامًا كما نحن اليوم في هذا المكان المقدس على قمة جبل أرز تنورين. أنظروا من حولكم؛ أنظروا إلى السماء. لا حاجز بيننا وبينها وبيننا وبين الله. ونحن في الوقت ذاته بعيدون عن العالم وعن همومه. فقمة الجبل هي مكان مميّز في حياة يسوع وفي حياة رسل يسوع وفي حياتنا الروحية.
هذا الموقع الذي نحن فيه يجعلنا نغوص في التأمّل بالله الخالق، ويالخليقة التي خلقها الله وبجمالها « ورأى الله أن كل ما خلقه حسن» (تكوين 1/25)، فقال: « لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلّط على المخلوقات وجميع الأرض» (تكوين 1/26).
أي أنه وضع المخلوقات كلها تحت سلطة الإنسان لكي يحبّها كما يحبّ الله الخالق ويتصرّف تجاهها بمسؤولية وحكمة واحترام. وأوصاه أن يعيش معها علاقة مميزة كما مع الله الذي أحبّه حبًّا كبيرًا وخلقه من فيض حبّه.
وهذه المسؤولية سلّمها الله إلى الإنسان منذ الخلق؛ ويسلّمها اليوم إلى كل واحد منا للحفاظ على الخليقة ولحمايتها ولتسليمها إلى الأجيال الآتية (3,40) جميلةً مُصانةً؛ وتستمرّ البشرية بتمجيد الله في خليقته.
هذا السرّ أظهرهُ السيد المسيح فقط لثلاثة من رسله، وسمح لهم أن يذوقوا طعم سرّ المجد. وتجلّى أمامهم في مجده الإلهي، نورًا ساطعًا « وبثياب بيضاء لا يستطيع أي قصّار في الأرض أن يأتي في مثل بياضها» (مرقس 9/3). هذا النور لم يكن يتصوّره إنسان، وحتى موسى لم يقدر أن يراه وجهًا لوجه، « فكان يضع قناعًا على وجهه لئلا ينظر بنو اسرائيل نهاية ما يزول» (2 قور 3/13).
كل ذلك لأن يسوع أراد أن يقول لرسله الثلاثة: أنتم اليوم تستطيعون أن تروا مجدَ الله مباشرة ومن دون قناع، لأنكم تحرّرتم بابن الله، وعملُ الروح القدس فيكم يجعلكم كل يوم أحرارًا. « وحيث الروح هناك تكون الحرية».
وبعد أن ذاقوا طعم هذا المجد، قال بطرس: « يا رب، حسن لنا أن نبقى هنا، لأن هذا المجد لا نراه في حياتنا اليومية.
أما يسوع « فأوصاهم ألاّ يخبروا أحدًا بما رأوا، إلاّ متى قام ابن الإنسان من بين الأموات» (مرقس 9/9)، وأن يعودوا إلى الحياة اليومية حيث كانوا يعيشون ليشهدوا لمجد يسوع الإلهي بنقل البشارة وبمحبة الناس وبدعوتهم إلى التوبة والخلاص. فعادوا إلى حيث كانوا وفهموا أنه عليهم أن يصعدوا من جديد إلى الجبل، ولكن مع يسوع حاملاً صليبه على درب الجلجلة ليموت على قمة الجبل ويعطي بموته وقيامته الخلاص لكل إنسان.
هذا هو سرّ المجد الذي نعيشه اليوم في ليلة عيد تجلّي الرب حول أرزات تنورين الخالدة. والأرزة في تاريخنا وتراثنا وليتورجيتنا ترمز إلى الحياة الأبدية التي تنتظرنا في المجد مع يسوع. فنتذكّر معًا ما قاله يسوع لبطرس ولرسله ولتلاميذه وما يقوله لنا اليوم: لا تخافوا ! لا تخافوا أن تشهدوا للمسيح الذي مات وقام من أجل خلاص البشر. أحبّوا جميع الناس من دون تمييز ولا استثناء، حتى الذين لا يحبونكم ويبغضونكم ويضطهدونكم. هذه هي طريق الخلاص؛ وأنا معكم إلى منتهى الدهر.
تعالوا نجدّد معًا إيماننا، وإيمان كنيستنا وآبائنا وأجدادنا الذين تقدّسوا على هذا الجبل وهم يعيشون بحرية وكرامة ورأسهم مرفوع لم يخضع سوى لله وحده. وهذا ما يجعلنا نتشجع ونتقوى لتأدية رسالتنا من دون خوف.
تعالوا نجدّد ثقتنا بالرب يسوع الذي يتجلّى معنا اليوم، ونؤدّي الشكر له ولأبيه ولروحه القدوس الذي « يجعلنا نعكس، كما يقول القديس بولس، صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كما في مرآة، فنتحوّل إلى تلك الصورة، ونزداد مجدًا على مجد، وهذا من فضل الرب علينا» (2 قور 3/18). آمين.