قداس ليلة عيد انتقال السيدة العذراء، سيدة حريصا تنورين 14-8-2017

عظة المطران منير خيرالله

في قداس ليلة عيد انتقال السيدة العذراء

الاثنين 14/8/2017، في كنيسة سيدة حريصا- تنورين

 277

تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي» (لوقا 1/46).

 

إخوتي الكهنة،

معالي الشيخ بطرس حرب، رئيس البلدية،

أحبائي جميعًا أبناء وبنات رعية تنورين وأصدقاءنا،

 

        في عيد انتقال العذراء مريم إلى السماء بالنفس والجسد نحن مدعوون من هذا المكان المقدس إلى أن نرتفع مع مريم إلى السماء؛ لأننا لا نستطيع من هذا المكان إلا أن نمجّد الخالق، ومع مريم نؤدي له الشكر على النعم التي يوزعها علينا مجانًا. مع مريم نردّد: « تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي الله مخلّصي».

مريم، منذ أن بشرّها الملاك بأنها ستدخل في مغامرة إلهية، لم تكن تفهم شيئًا من هذا السرّ، قبلت بإرادة الله وقالت نعم، « فليكن لي بحسب قولك». ودخلت مريم في مسيرة مع أبنها يسوع، الذي سيصبح إنسانًا من خلالها وبعمل الروح القدس، منذ ولادته حتى موته وقيامته. مريم مشت مع إبنها يسوع مسيرة صمت وتواضع وخدمة؛ القيم الثلاث التي تميّزت بها مريم والدة الإله.

أولاً، مسيرة صمت. مريم التي عرفت أنها ستكون أم الإله الذي سيصير إنسانًا، صمتت أمام هذا السرّ العظيم، وعاشت بصمت كل حياتها. كلماتها كانت قليلة جدًا، لأنها عاشت في قلبها سرّ الله الإنسان والمخلّص.

ثانيًا، مسيرة تواضع. مريم، التي اختارها الله من بين نساء العالم لتكون أمًا لابنه الإله، تواضعت حتى النهاية. وقالت في نشيدها إلى الله « لأنه نظر إلى تواضع أمته». الله الذي قلب مقاييس البشر وغيّر منظقهم، « أنزل المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين»، وفرفك أنوف المتكبّرين. هذا هو سرّ الله، وهكذا فهمته مريم. فتواضعت حتى الامّحاء أمام ابنها يسوع الإله، تمامًا كما هو تواضع حتى الامّحاء ليصبح عبدًا ويموت على الصليب.

ثالثًا، مسيرة خدمة. كانت مسيرة مريم مسيرة خدمة مجانية. بعد بشارة الملاك، « مضت مريم مسرعة إلى الجبل إلى مدينة في يهوذا» لتخدم نسيبتها أليصابات التي قال عنها الملاك إنها جبلى في الشهر السادس بالرغم من شيخوختها وعقمها، ليتمّم الله عمل الخلاص بيوحنا المعمدان. وقضت عندها ثلاثة أشهر لتخدمها.

امتازت مريم إذًا بالصمت والتواضع والخدمة. وبقيت هكذا حتى آخر لحظة من حياة يسوع على الأرض. وعلى أقدام الصليب، قدّمت مريم ذاتها بصمت وتواضع وخدمة لتتمّم إرادة الله. وقال لها يسوع متوجهًا إلى يوحنا الرسول: « هوذا ابنك»؛ وقال ليوحنا: « هذه أمك». وسلّمها البشر ليكونوا لها أبناء.

سلّمنا جميعًا لأمه مريم. وبعد قيامته وانتقاله إلى مجده السماوي، أراد أن يكرّم أمه مريم بنقلها إلى السماء بالنفس والجسد لتكون عنده أمًا وشفيعة لجميع البشر.

واليوم في ما نعيّد عيد انتقالها إلى السماء، مع الكنيسة ومع جميع المؤمنين المسيحيين في العالم، وفي هذا المكان المكرّس لتكريمها، تدعونا مريم إلى عيش القيم التي امتازت بها.

إنها تدعونا أولاً إلى عيش الصمت في عالم يكثر فيه الكلام. وكم نحن في حاجة إلى صمت لنتأمل سرّ الله ولنتطلّع إلى مريم تدلّنا على ابنها يسوع.

إنها تدعونا ثانيًا إلى التواضع في عالم يتسابق فيه الناس على المظاهر والبهرجة والتشاوف.

وإنها تدعونا ثالثًا إلى الخدمة المجانية في عالم تسيطر فيه روح الإنانية وتغيب عنه شيئًا فشيئًا روح التضامن والتعاضد.

هذا هو الجوّ الذي نعيش فيه اليوم. بينما آباؤنا وأجدادنا الذين عاشوا على هذه الأرض المقدسة طلبوا دومًا شفاعة مريم التي رافقتهم وعاشوا القيم التي علّمتهم إياها مريم: أي الصمت والتواضع والخدمة.

احتفالنا اليوم مع مريم يعيدنا إلى تاريخنا، إلى كل التضحيات التي قدّمها آباؤنا وأجدادنا وشعبنا وكنيستنا طوال مئات السنوات ليبقوا صامدين على أرضنا المقدسة التي تسلّموها من الله وديعة ليحافظوا عليها؛ لم يشتروها ولم يبيعوها ! إنها ملك لله وحده، إنها وقف لله. وإكرامًا لمريم، بنوا هذا المزار، وغيره الكثير من المزارات والكنائس على طول جبالنا وودياننا، وبرهنوا أنهم قادرون على الثبات في إيمانهم والسير مع يسوع حتى الصليب ليقفوا مع مريم على أقدامه محتملين الآلام والعذاب ومنتظرين يوم القيامة.

يا ابناء وبنات تنورين، لا تنسوا أن أجدادكم انطلقوا من هنا من جبل تنورين حاملين معهم سيدة حريصا إلى درعون وأطلقوا عليها اسم حريصا. واليوم يحجّ المؤمنون من كل بلدان العالم إلى سيدة لبنان في حريصا. كل ذلك بفضل أجدادكم. هل تفهمون ماذا يعني هذا التاريخ ؟ هل تفهمون ماذا يعني أن نقف بوفاء أمام هذا التاريخ العظيم ؟

تطلب منا مريم الليلة أن نجدّد إيماننا بالله وتعلّقنا بأرضنا المقدسة وأن لا نقبل ببيعها لأحد. وكما تسلّمناها وديعة مباركة علينا أن نسلّمها إلى أولادنا.

تطلب منا مريم الليلة أن نبقى، كما كنا في تاريخنا، شعبًا واحدًا متضامنًا متكوكبًا حول بطريركه، الأب والراعي والمرجع والقائد؛ وأن نبقى ثابتين في إيماننا وثقتنا بالله لنعيش بحرية وكرامة على أرضنا المقدسة.

إننا نجدّد الليلة من هنا، وبشفاعة أمنا مريم سيدة حريصا، انتماءنا إلى لبنان الوطن الرسالة الذي بناه أجدادنا، مسيحيون ومسلمون، رسالة في العيش الواحد بالحرية والكرامة والاحترام المتبادل.

ونعلن أن ربنا يسوع المسيح غلب العالم وهو باقٍ معنا إلى منتهى الدهر، وأن مريم ستبقى شفيعة لنا ومحاميةً لنا لدى ابنها يسوع، لنمجّد معًا الله الآب والابن والروح القدس. آمين.    

Photo Gallery