عظة المطران منير خيرالله
في ليلة عيد مار عبدا الراعي والأسقف الشهيد، كفيفان، الخميس 30/8/2018
« ها إن ملكوت الله بينكم وفي داخلكم» (لوقا 17/21)
أبونا بطرس (فرح) خادم الرعية، أبونا رزق (رزق) ابن الرعية،
المختار، أحبائي جميعًا أبناء وبنات كفيفان والأصدقاء المجتمعين في عيد شفيع الرعيّة.
سمعنا يسوع في إنجيل اليوم من القديس لوقا يعلّم وينبّه الفريسيين والشعب والتلاميذ عن ملكوت الله ومجيء ابن الإنسان. « سأله الفريسيون: متى يأتي ملكوت الله ؟ فأجابهم: لا يأتي ملكوت الله في المراقبة. ولن يقال: ها هوذا أو ها هوذا هناك. فها إن ملكوت الله بينكم وفي داخلكم» (لوقا 17/20-21).
لم يفهم التلاميذ كلام يسوع. كان يشرح لهم أنه هو ابن الإنسان الآتي من عند الله الآب ليحقق ملكوت الله. جاء يزرع الملكوت في قلب كل إنسان لكي يكون له دور في تحقيقه. وملكوت الله يتحقق في المحبة والمصالحة والتضحية والسلام واحترام الإنسان، كل إنسان، لأنه مخلوق على صورة الله كمثاله.
وأنهى يسوع كلامه قائلاً: « فكذلك يكون ابن الإنسان يوم مجيئه. ولكن لا بد له قبل ذلك أن يعاني آلامًا شديدة، وأن يرذله هذا الجيل» (لوقا 17/25).
لكن التلاميذ لم يتوقّفوا عند كلمة « لكن » ولم يريدوا أن يصدقوا أن يسوع جاء ليفتدي البشر. لا بُدّ له أن يموت بعد أن يتألم ويهان من الناس؛ أن يموت على الصليب لكي بموته وقيامته يُعطي الحياة الأبدية لجميع البشر من دون تمييز لأن الله يُحبّهم جميعًا. فملكوت الله يَعبُر بالموت، بموت المسيح وقيامته، ويعبر بموت كلّ مؤمن يتبع المسيح لكي يستحق القيامة معه. ثم أضاف قائلاً للجميع: كما كان في أيام نوح وكما كان في أيام لوط، الناس يأكلون ويشربون ويتنعمون ويزوجون ويتزوجون وكأن ملكوت الله بعيد. تناسوا كل ما يوصي به المسيح ولا يريدون الانتظار؛ فراحوا يعيشون حياتهم. أتظنون أننا اليوم نعيش في واقع الكلام الذي قاله المسيح ؟ ألسنا نحن كما في أيام نوح وفي أيام لوط حيث فُقدت القيم والأخلاق والمرجعية المسيحية وشخص المسيح الذي افتدانا بموته وقيامته ؟ نعم. وما قاله يعقوب الرسول في رسالته ينطبق علينا إذ نعيش وكأن الله بعيد عنا؛ نعيش وكأن ملكوت الله لا نعرفه ولم يتحقّق؛ نعيش في محاباة الوجوه والمظاهر والكنفشة وحبّ الظهور. هذا الكلام، كلام الله، ينطبق علينا اليوم، علينا جميعًا. أعتقد أننا في حاجة ضرورية وماسّة جدًا إلى توبة. قال المسيح هذا الكلام وقال يعقوب هذا الكلام ليدعوا المؤمنين إلى التوبة. نحن جميعنا نحتاج إلى توبة من الكبير إلى الصغير. نحتاج إلى توبة صادقة لا تحابي الوجوه. إلى توبة تنبع من الإيمان ومن الثقة بأن ملكوت الله هو في داخلنا. فعل التوبة ينبع من قناعتنا أن ما نقوم به يجب أن يكون من ثمرة تحقيق الملكوت فينا، في كل واحد منا، في قلبه وحياته وتصرّفاته وفي تعامله مع الناس. نعم، نحن في الكنيسة اليوم نحتاج إلى توبة. كنيستنا بكل من فيها، بكل أبنائها، أبدأ منّا نحن المطارنة رعاة الكنيسة والكهنة والشعب، نعم فيّ أولاً، نبدأ بفعل توبة ونشهد بحياتنا أننا تلاميذ المسيح وأبناء الملكوت. ثم كلّ واحد منا، عليه أن يقرع صدره تائبًا إلى الله. تعوّدنا أن نحكم على الآخرين وأن ندينهم بينما على كل واحد أن يقرع صدره. لا أحد يستطيع أن يقرع صدر غيره ليتوب عن غيره. كل واحد يحتاج إلى توبة. ونقول كما قال المسيح « لكن». لكن مسيرة التوبة لا بد أن تعبر بالشهادة للمسيح بكل صدق. لا بُدّ أن تعبر بالشهادة للمسيح بالمحبة والمسامحة والمصالحة، وأن تعبر إلى الآخر بانفتاح القلب وبالاحترام الكامل. هذه هي مسيرة التوبة. هل نحن مستعدون أن نقوم بها ؟
كل واحد يجيب على هذا السؤال. فكما طرحه المسيح أطرحه أنا اليوم باسم المسيح وباسم مار عبدا الراعي والأسقف والشهيد. أسأل كل واحد منكم: « هل أنت مستعد للتوبة ؟». أوقِفْ إذًا محاباة الوجوه. أوقفْ الحياة السطحية واعتبار المظاهر. قفْ أمام الله وافتح قلبك، لأن الله يعرف كل شيء. فإذا كذبنا على الناس نكذب على نفوسنا، ولكن لا نستطيع أن نكذب على الله. فالله يعرف كل شيء. لذا التوبة واجب والشهادة واجبة.
في ليلة هذا العيد أردت أن أكون معكم لأعيّد عيد شفيعكم مار عبدا ولأحيّي خادم رعيّتكم أبونا بطرس على موقف المحبة حتى النهاية، على موقف انفتاح القلب والمسامحة والمصالحة. وأحييكم جميعًا. وأنا طلبت من الجميع، من جميع من كانوا في تلك الليلة 22 آب، طلبت منهم فعل توبة وقاموا بفعل توبة واعتذار من الخوري بطرس واعتذار من الكهنوت ومن المطران، لكي نفتح صفحة جديدة في ليلة هذا العيد، صفحة محبّة ومصالحة وانفتاح قلب ونطوي صفحة الماضي. لا نُريد أن نعيش كما في أيام نوح وكما في أيام لوط. وعلينا أن نتخطّى هذا السلوك في الحياة. وهذه مسؤولية كل واحد منا. ومن يريد أن يتحمّل المسؤولية ويشهد أمام المسيح أنه حقيقةً تلميذُ له، فعليه أن يقوم بهذه التوبة والمصالحة ويفتح صفحة جديدة لكي يشهد أن ملكوت الله هو أيضًا في داخله. نعم ملكوت الله هو في داخل كل واحد منا. لذا يجب أن يُثمر أعمالاً صالحة وشهادةً مسيحية في السلوك والتصرفات والأعمال والكلام. ساعتئذٍ تكون شهادتُنا شهادةً للمسيح ونكون حقيقة تلاميذ المسيح نصل بشهادتنا حتى النهاية وبذل الذات مع المسيح كما شفيعنا مار عبدا وآلاف وآلاف من الشهداء في تاريخ كنيستنا، وتكون شهادتنا ليس فقط لشعبنا ولكن أيضًا شهادة لجميع الناس المؤمنين وغير المؤمنين. إننا نستطيع أن نتخطى كل الصعوبات والتحديات والعقبات لكي نبقى في نصاعة وبياض شهادتنا ومحبتنا لبعضنا البعض واحترامنا لبعضنا البعض.
إنّي أقدم هذا القدّاس اليوم على نيتكم جميعًا؛ على نيّة خوري رعيتكم وعلى نية كل واحد وكل عائلة من عائلاتكم لكي تبقى عائلاتُنا مصليةً ومباركة، عائلاتٍ مصدرًا للقداسة والقديسين. هذا هو تاريخنا؛ هذه هي أبرشيتنا؛ وهؤلاء هم قديسونا من حولنا بين كفيفان وجربتا وحردين وعنايا. نعم نحن أيضًا مدعوون إلى القداسة. آمين.