عظة المطران منير خيرالله
في رسامة الخورأسقف بطرس خليل
كاتدارئية مار اسطفان البترون، السبت 12/10/2019
بفرح كبير أنا معكم اليوم وقد شرّفني صاحب الغبطة والنيافة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الكلّي الطوبى وفوّضني منحَ رتبة الخورأسقفية لأخينا الخوري بطرس خليل، خادم رعية كفرعبيدا، ذات تاريخ عريق مع الخورأسقفيين.
ومعًا نرفع التسبيح والمجد والشكران إلى الله الآب والابن والروح القدس على هبة الرتبة الخورأسقفية التي تُمنح اليوم للخوري بطرس ليخدم فيها بالحكمة والفطنة؛ علمًا أن الخورأسقفية هي من المراتب العليا في الدرجة الكهنوتية.
إن الكهنوت هو في جوهر معناه ورسالته خدمة، تشبُّهًا بالمسيح ابن الله والكاهن الأوحد والأبدي، الذي جاء ليَخدم لا ليُخدم (متى 20/28)، وواضَعَ نفسه حتى غَسَل أرجُلَ رسله ليجعل من نفسه قدوةً لهم (يوحنا 13/15).
أما مفهوم الكهنوت في تراثنا الانطاكي الماروني فينطلق من يسوع إلهنا الذي هو مصدر ومبدأ الكهنوت الأوحد؛ منه كل كهنوت إن في العهد القديم أو في العهد الجديد. هكذا يشرح البطريرك الدويهي في منارة الأقداس التي هي خلاصة لاهوتية تقابل في كنيستنا خلاصةَ توما الأكويني في الكنيسة الغربية، على حدّ قول العلاّمة الخوري يواكيم مبارك. ويتابع: والكهنوت الذي أنشأه يسوع المسيح في شخصه لخدمة الشعب الكهنوتي (Peuple sacerdotal) الذي هو الكنيسة، (وهي فكرة أكّد عليها المجمع الفاتيكاني الثاني بعد حوالي ثلاثماية سنة إذ قال إن شعب الله هو شعب كهنوتي يشارك في كهنوت المسيح)، يصبح تقدمةَ قربانٍ أو إفخارستيا، حيث المسيح ابن الله الذي صار إنسانًا يقدِّم ذاته الإنسانية بكاملها قربانًا لأبيه وفداءً عن البشر من أجل خلاصهم. إنه الكهنوت الذي ارتضى فيه المسيح أن يُخلي ذاته الإلهية تدبيرًا فدائيًا ويسيرَ معنا بالناسوت مسيرةً توحيدية ليوحِّدنا بالآب ويرفَعَنَا إلى الألوهة.
أيها العزيز الخوري بطرس،
إنه الكهنوت الذي عاشه وشهد له جدّي وجدُك الخوري بطرس؛ فكان ذبيحة قربان وتقدمةَ شكرٍ خدمةً لشعب الله.
تعرّفتُ إليه قبل ولادتك ورافقتُه بعدها إذ كنت أخدم له القداس الساعة السادسة من كل صباح وأقرأ الرسالة والإنجيل وصلوات القداس لضعف نظره في الخامسة والتسعين من عمره.
وبعد سنة من دخولي المدرسة الإكليريكية في غزير بعمر الحادية عشرة، انتقل إلى السماء وترك لي وصيَة أن أصلّي من أجل أن ألبِّيَ دعوة الله إلى الكهنوت ومن أجل أن يبقى في هذا البيت كاهنٌ.
بدوري رافقتك تكبر وتتنقل في مدارس البترون إلى أن قرّرتَ الدخول كبيرًا إلى الإكليريكية البطريركية في غزير. ثم بعد ست سنوات قبلتَ سرّ الكهنوت بوضع يد سيادة المطران بولس آميل سعاده في 30 آذار 1990 في كاتدرائية مار اسطفان البترون. وبقيتَ إلى جانبه في دير مار يوحنا مارون كفرحي المقرّ البطريركي الأول الذي كان قد بدأ بترميمه ليكون كرسيًا لمطرانية البترون؛ وخدمتَ رعايا كفرحي وبقسميا وجبلا.
بعدها انتقلتَ إلى المحكمة المارونية لتعمل فيها إلى جانب المثلث الرحمة المطران رولان أبو جوده.
وسنة 2002 أرسلك سيادة المطران سعاده، تلبيةً لرغبتك، إلى أبرشية سان إتيان في فرنسا لتخدم فيها في إطار التوأمة التي تجمع الأبرشيتين وتتابعَ دروسك في الحق القانوني الكنسي.
في شباط 2012، بعد تسلّمي الخدمة الأسقفية في أبرشية البترون طلبتُ إليك العودة من فرنسا لتكون نائبًا عامًا للأبرشية وخادمًا لرعية كفرعبيدا.
وبعد سبع سنوات عقدنا خلالها مجمعًا أبرشيًا بهدف التجدّد والعودة إلى الجذور الروحانية، طلبتَ إعفاءك من النيابة العامة لتتفرّغ للخدمة الرعائية.
وستبقى حاضرًا في الأبرشية بالمواهب التي منحك الله إياها، ومنها الاندفاع في الخدمة والتضحية وكرم اليد والأخلاق.
أيها العزيز النسيب الخورأسقف بطرس،
ستنال بعد قليل وضع اليد في رتبتك الجديدة. لذا أردّد عليك اليوم ما كتبه القديس بولس لتلميذه طيموتاوس لدى رسامته: « أنبّهك على أن تذكّي هبة الله التي فيك بوضع يديّ». « إحفظ الوديعة الكريمة بالروح القدس الذي يقيم فينا» (2 طيمو 1/6 و14).
« وكأن القديس بولس يكتب إلينا اليوم نحن الرعاة في خدمة شعب الله»، قال قداسة البابا فرنسيس في افتتاح سينودس الأساقفة لمنطقة الأمازون منذ أيام (6/10/2019). وتابع: « إننا رعاة لأننا نلنا هبةً من الله. لم نوقّع على اتفاق معه، ولم نتسلّم بأيدينا عقد عمل، بل نلنا وضع الأيدي على رأسنا، كي نكون بدورنا أياديَ مرفوعةً تتوسّط لدى الرب وأياديَ ممدودةً للأخوة. لقد نلنا هبةً كي نكون هبةً. لا يمكن شراء الهبة أو تبادلها أو بيعها: إنما ننالها أو نمنحها. وإذا استملكناها لأنفسنا وحَسِبنا أنفسنا أننا محورُ الهبة نتحوّل من رعاة إلى موظفين».
مطلوب منا إذًا، نحن في درجات الكهنوت، أن نشهد لكهنوتنا وأن نتحلّى بالحكمة والفطنة.
بالحكمة أولاً، لأن « الحكمة كانت عند الأقدمين في الأعمال أظهَرَ منها في الأقوال، يقول مار افرام السرياني، لأنهم فضّلوا على طلاقةِ اللسان عَظَمَةَ الذكاء تنعكس على الصمت». (الدياتسّرون، 22/3).
وبالفطنة ثانيًا، « لأن الفطنة هي فضيلة مسيحية، فضيلة حياة» كما يقول البابا فرنسيس. « فالفطنة هي الفضيلة التي تهيّء العقل لتمييز خيرنا الحقيقي في كل ظرف ولاختيار الوسائل القويمة لإتمامه». « الفطنة هي فضيلة الراعي الذي يعرف كيف يميّز وهو منفتح على جديد الروح كي يخدم بحكمة».
أخيرًا، أصلي من أجلك ومعك إلى الله بحسب صلاة القديس توما الأكويني لالتماس الفضائل:
« مُنَّ عليّ يا ربّ بالعدل فأدينَ لك، وبالحكمة فأتّقي حبائل إبليس،
وبالقناعة فأثبتَ على النصف، وبالقوة فأصبرَ على المحن.
إمنحني أن أقاسم غيري ما هو لي راضيًا، وأسأله ما ليس لي خاشعًا، وأن أعترف بذنب صنعتُ، وأحتملَ شرًّا به أشقى، وأن لا أحسُدَ غيري على خيرٍ، ولا أنسى فضلك في خير.
وأن لا أتعدّى الحدَّ في كِسوتي ومِشيَتي وحَرَكتي،
وأن أضبط شفتيَّ عن الباطل، ورجليَّ عن الزَيَغ، وعينيَّ عن الشرود، وأذنيَّ عن الصَخَب.
يا رب إزرعْ الفضائل في قلبي، فأتفانى في ما هو لك». آمين.