قداس خميس الصعود وعيد القديسة ريتا- البترون 21-5-2020

 

عظة المطران منير خيرالله

 

في قداس خميس الصعود وعيد القديسة ريتا

 

الخميس 21/5/2020، في مزار القديسة ريتا- البترون

 333

 

« ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء ؟» (أعمال 1/11).

 

 

نحتفل اليوم معكم بعيد صعود المسيح إلى السماء وبعيد القديسة ريتا شفيعة هذا المكان وشفيعة الأمور المستحيلة.

 

في إنجيل خميس الصعود، نقرأ أن يسوع بعد قيامته كلّم رسله الأحد عشر قائلاً: « إذهبوا في العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين. فمن آمن واعتمد يخلُص، ومن لم يؤمن يدان. والذين يؤمنون تصحبهم هذه الآيات: باسمي يطردون الشياطين، ويتكلمون بلغات لا يعرفونها، ويمسكون الحيّات بأيديهم، وإن شربوا سُمًّا مميتًا فلا يؤذيهم، ويضعون أيديهم على المرضى فيتعافون. ثم رُفع عنهم إلى السماء وجلس عن يمين الله». (مرقس 16/15-19).

 

لم يستوعب الرسل ما كان يحصل لأن الخوف كان لا يزال ساكنًا في قلوبهم، وبقيت « عيونهم شاخصةً إلى السماء. وإذا ملاكان يقولان لهم: أيها الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء ؟» (أعمال 1/11). فتذكروا حالاً ما كان قد قال لهم: لا تخافوا، « الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوةً وتكونون لي شهودًا في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الأرض» (أعمال 1/8).

 

فانتصروا على الخوف الذي فيهم وراحوا يحملون بشرى الخلاص إلى جميع البشر وكل بقاع العالم، غير آبهين بتحديات الرفض والظلم والاضطهاد والموت. وكان منهم، وممن سمع لهم على مرّ الأجيال، أن ردّوا شعوبًا كثيرة إلى الإيمان بالله وأتوا الآيات العجيبة... وقبلوا أن يحملوا الصليب بفرح ويموتوا في سبيل إيمانهم بالمسيح ابن الله الحي.

 

ومن هؤلاء كانت القديسة ريتا التي نحتفل بعيدها اليوم.

 

في حياتها العائلية أولاً، ثم في حياتها الرهبانية ثانيًا، تقدّست بمواجهة تحديات كبيرة: منها أولاً طباع زوجها الشرسة، فحوّلته إلى مسالم ومحبّ لله وللناس؛ ثم الوقوف في وجه روح الانتقام والثأر في العائلة فحوّلته إلى مغفرة، وإرادة الثأر عند ولديها، فحوّلتها إلى محبة ومغفرة باتّكالها على الله وثقتها الكاملة به وقبولها بمشاركة المسيح في آلامه وقراءة حياتها في كتاب صليبه، هو الذي قال: « أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهديكم». ومات ولداها في فضيلتي الإيمان والمحبة.

 

أما في حياتها الرهبانية، التي دخلتها بعد أن انسلخت كليًّا عن العالم، فواجهت أولاً الرفض من الراهبات واليأس من نيل مبتغاها ودخلت الدير؛ ثم الصراع مع الشيطان في عيش نذورها الرهبانية في الطاعة والفقر والعفة. وانتصرت بصليب المسيح وبقوة الروح القدس. وتقدّست وأصبحت في الكنيسة شفيعة الأمور المستحيلة.

 

وهي تدعونا اليوم، نحن المسيحيين واللبنانيين، كما يدعوننا قديسونا الذين عاشوا قبلنا على هذه الأرض المقدسة، إلى مواجهة التحديات العاتية، الراهنة والآتية، بفضائل الأيمان والرجاء والمحبة. ومن هذه التحديات اليأس من واقع الفشل السياسي الذريع الذي أغرقَنا في أزمة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية ومعيشية تُذكّرنا بمجاعة الحرب العالمية الأولى. تعلّمنا القديسة ريتا أن ننتصر على هذا اليأس بالاتكال على الله وبعيش الفضائل المسيحية. ويذكّرنا قديسونا وأجدادنا أنه بعد الحرب العالمية الأولى وويلاتها جاء من يبني، بقوة الرجاء، دولة لبنان الكبير، المكرّم البطريرك الياس الحويك، ابن أبرشيتنا، باسم جميع اللبنانيين ومعهم.

 

أما اليوم، وفيما نحتفل بالذكرى المئوية الأولى لولادة لبنان الكبير، فيأتي بعضهم لينعي لبنان الكبير ويقول إنه انتهى، مات ولن يعود.

 

فنقول لهم، نحن أبناء القيامة: كلاّ، لبنان لم ينتهِ ولم يمتْ. بل إن حقبةً من تاريخه اتّسمت، لسوء الحظ، بالانحطاط القِيَمي والتدهور الأخلاقي والتراجع الثقافي والفشل السياسي والفساد الإداري، ستنتهي.

 

بل نبشرهم بأن طبقةً من السياسيين الفاسدين والطامعين بالسلطة وناهبي أموال الدولة والناس، هي إلى تراجع واندثار.

 

وفي مواجهة يأسنا من إعادة إحياء لبنان في دعوته التاريخية، يقول لنا ملاك الرب: أيها اللبنانيون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء ؟ إذهبوا وبشرّوا واشهدوا أن لبنانكم هو أرض مقدسة ووقفٌ لله، واعملوا معًا على إعادة بنائه.

 

نعم، لبنان سيولد من جديد في ذكرى مئويته الأولى وعلى يد أبنائه وبناته اللبنانيين المؤمنين به وطنًا رسالة والمخلصين له. سيولد، على المبادئ التي أرادها المكرّم البطريرك الياس الحويك، دولةً مدنيّة، نعم مدنية، تحكم بالعدل والمساواة والنزاهة والشفافية في سبيل الخير العام، وتحترم كل الطوائف والمكوّنات والانتماءات الدينية والسياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية.

 

هذا هو رجاؤنا. وهذه هي إرادتنا.

 

تعالوا نصلّي معًا من أجل المسؤولين السياسيين والمدنيين والدينيين، طالبين من الله، مع القديسة ريتا وبشفاعتها، أن يُلهمهم إلى توبةٍ صادقة، فيتحلّوا بالقيم الإنسانية التي ميّزت تاريخنا وشعبنا، ويقوموا بفعل تعويضٍ روحي ومعنوي ومادي عن الخسارة التي تسبّبوا بها للوطن وللدولة وللشعب.

 

ونحن واثقون أن الله سيستجيب لصلاتنا.    

Photo Gallery