كلمة في وداع المطران يوسف بشاره 11-6-2020

 

               337                                   336    

المطران يوسف بشاره: كنسيٌّ مجمعيّ بامتياز ووطني أصيل وصلب!

 

                                                                                                                                                                المطران منير خيرالله

 

                                                                                                                                                                                                                                               11/6/2020

 

 

رحل المطران يوسف بشاره في بداية زمن العنصرة، ولكن نضاله الكهنوتي والكنسي والوطني يبقى مرجعًا ومثالاً وقدوة للمؤمنين والمواطنين.

 

ويبقى شخصه وفكره حاضرَيْن في ضمير الكنيسة والوطن كمدافع عنيد عن مسيرة التجدّد والرجاء في الكنيسة ومسيرة الحرية والاستقلال والسيادة المطلقة للوطن، لبنان الرسالة.

 

صعد سلّم الخدمة الكنسية بثبات وهدوء وصمت ولكن بالتزام كنسي كامل في العمل المشترك بين الإكليريكيين والعلمانيين.

 

ابن عربة قزحيا (ولد فيها في 19 آذار 1935)، جار دير مار أنطونيوس قزحيا والوادي المقدس اللذين طبعا حياته بالروحانية النسكية المتجردة والمتواضعة،

 

وابن زغرتا – الزاوية وجار إهدن اللذين طبعا شخصيته بالعزّة والكرامة والصلابة في الدفاع عن الحق.

 

دخل صغيرًا إلى إكليريكية مار مارون في غزير وكان يديرها الآباء اليسوعيّون حيث تلقى دروسه التكميلية والثانوية (1948-1956). ثم انتقل إلى الإكليريكية الشرقية في بيروت وجامعة القديس يوسف بإدارة الآباء اليسوعيين لينجز دروسه الفلسفية واللاهوتية (1956-1963)، ويقبل سرّ الكهنوت في 19 نيسان 1963.

 

أرسله سيادة المطران انطون عبد إلى باريس ليتخصص في معهد سان سولبيس والمعهد الكاثوليكي في باريس على يد الآباء السولبيسيان في التنشئة الكهنوتية وإدارة الإكليريكيات (1963-1965).

 

عاد إلى لبنان ليكون مديرًا لإكليريكية مار أنطونيوس كرمسده التابعة لأبرشية طربلس (1965-1970)، ثم مديرًا لمدرسة مار مارون طرابلس (1970-1975)، ورئيسًا لإكليريكية كرمسده (1975-1977).

 

في تلك السنوات التزم في حياة كهنوتية وجماعية مع تجمّع كهنة الشمال مع اخوته الخوارنة، المطارنة فيما بعد: اسطفان هيكتور الدويهي، يوسف ضرغام، بولس آميل سعاده، فرنسيس البيسري، جبرائيل طوبيا، فضلاً عن المونسنيور أنطون والمونسنيور بولس الفغالي والمونسنيور فيكتور كيروز.

 

في سنة 1977، وبعد أن كان البطريرك أنطونيوس خريش قد وضع في أولويات بطريركيته إعلاء شأن التنشئة الإكليريكية على أنها مقلع الكهنة ومؤسسة بناء مستقبل الكنيسة، واشترى مبنى الإكليريكية في غزير من الآباء اليسوعيين، اختار الخوري يوسف بشاره ليكون رئيسًا لها ويتولّى ورشة إعادة بناء التنشئة بشرًا وحجرًا.

 

وهنا تعرّفتُ إليه عن قرب ورافقته ولم أفترق عنه حتى رحيله في 9 حزيران 2020، إذ كان البطريرك خريش قد هيأني بعد رسامتي الكهنوتية للسفر إلى فرنسا ومتابعة اختصاصي في التنشئة الكهنوتية. فالتقينا واستمعت مطوّلاً إلى إرشاداته وزوّدني بتوجيهاته كي تتلاءم دروسي مع الواقع الجديد للتنشئة الكهنوتية في الكنيسة المارونية.

 

عدتُ بعد ست سنوات من باريس وكان الخوري يوسف بشاره قد قام بإنجاز كبير بفضل إدارته الحكيمة، وروحانيته المميزة، وتواضعه العميق، ونظرته البعيدة، في تركيز التنشئة الكهنوتية على الثوابت المارونية وعلى الانفتاح على متغيرات العصر ولا سيما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، مجمع تجدّد الكنيسة، الذي كان عمل على ترجمة نصوصه مع الأب (المطران) عبده خليفه والخوري (المطران) فرنسيس البيسري.

 

وفي تموز 1985، دُعي الأب يواكيم مبارك، الذي كان قد عاد إلى لبنان بعد غياب دام أربعين سنة وكنتُ قد تتلمذتُ على يده في باريس، ليُصدر الخماسية الانطاكية المارونية، ويتولّى إلقاء مواعظ الرياضة الروحية لأعضاء الرابطة الكهنوتية في الإكليريكية البطريركية في غزير.

 

فعرض الأب مبارك مشروع حياته المنادي بالاصلاح عن طريق مسيرة مجمعية تهيّئ « لعقد مجمع لبناني جديد (المجمع اللبناني الأول عقد سنة 1736) كفيلٍ بإحداث نهضة في الكنيسة المارونية تعيدها إلى دور الريادة في حضورها العالمي وشهادتها المشرقية». وكانت له قناعات ثلاث:

 

الأولى: أن لا إصلاح في الكنيسة إلا عن طريق العمل المجمعي.

 

الثانية: أن لا إصلاح مجمعيًا في الكنيسة من دون نهضة روحية وعودة إلى الجذور الإيمانية والينابيع الروحانية في قنوبين.

 

الثالثة: أن عمل الإصلاح في الكنيسة المارونية يتحقق عبر مؤسستين، وهما المدرسة الإكليريكية حيث تتم تنشئة كهنة المستقبل، والرابطة الكهنوتية التي تجمع أساقفة وكهنة يرعون شعب الله ويهيّئون أبناءه لتجدّد دائم.

 

تلقّف الخوري يوسف بشاره هذا المشروع، وهو الذي كان يجمع في شخصه رئاسة المؤسستين ويتلاقى تمامًا مع طروحات وتطلعات الأب مبارك. وساعدته على ذلك خبرته السابقة الطويلة التي تميّز فيها بالتزامه الدؤوب بالعمل الكنسي المشترك بين الإكليروس والعلمانيين، إذ رافق مع إخوته الكهنة محاولات المطالبة بالإصلاح الكنسي وبعقد مجمع لبناني جديد في حركة طلاب اكليريكيتي غزير وبيروت (1972)، وتجمّع كهنة المسيح الملك (1972-1973)، ومنهم الخوري (المطران) رولان ابو جوده وحركة كنيسة من أجل عالمنا (1973-1982) وفيها الخوارنة (المطارنة) جورج اسكندر وأنطوان حميد موراني وبطرس الجميّل وسمير مظلوم وجوزف زعرور وغيرهم...)، والرابطة الكهنوتية (منذ 1954).

 

بدأت المسيرة المجمعية بقيادة المطران يوسف الخوري ورعاية الخوري يوسف بشاره وتخطيط الخوري يواكيم مبارك بتأليف لجنة ضمّت باحثين أساتذة من الجامعة اللبنانية؛ وكنت أنا أمين سرّها.

 

ولكن سرعان ما تغيّرت الظروف باستقالة البطريرك أنطونيوس خريش (في 17 تشرين الثاني 1985) وتعيين المطران ابراهيم الحلو مدبّرًا رسوليًا من قبل الكرسي الرسولي؛ ثم بانتخاب البطريرك نصرالله صفير (في 19 نيسان 1986)، وتعيين الخوري يوسف بشاره مطرانًا على أبرشية قبرص- انطلياس والخوري خليل ابي نادر مطرانًا على أبرشية بيروت.

 

تسلّم المطران يوسف بشاره خدمته الأسقفية واتخذ لها شعارًا: « أنا بينكم كالخادم» (لوقا 22/28). وحدّد مهامه الأسقفية ليكون:

 

« الراعي، على مثال المسيح الراعي الصالح، يتميّز بعينٍ تسهر وأذن تسمع وقلب يحبّ.

 

والمعلّم، يتميّز بفكر سليم وعقل مستنير بنور الروح ولسان ينطق بالحق.

 

والمقدِّس يتميّز بيدٍ تبارك وتسامح وتوزع نِعَم المسيح».

 

ودعا أبناء أبرشيته إلى « أن نكون ابناء الله وأن نكون شهودًا للمسيح ولقيامته. فكلنا أعضاء جسدٍ واحد رأسه المسيح». وأعلن لهم، ولا سيما للكهنة، أنه « بدونهم لا يستطيع شيئًا»، وأنه « بحاجة إلى كل واحد منهم في الورشة الروحية الكبرى».

 

ودعا أبناء أبرشيته في المتنين، بمختلف طوائفهم وأحزابهم، إلى « أن يكونوا دومًا متآلفين متضامنين ويتذكروا ماضيهم القريب والبعيد ويكونوا نموذجًا في العيش الواحد المشترك الذي هو رسالة لبنان».

 

ولكنه لم يفكّ ارتباطه بالمسيرة المجمعية، بل على العكس قادها بحكمته، لا سيّما بعد وفاة المطران يوسف الخوري والخوري يواكيم مبارك، بمعيّة المطارنة في اللجنة الأسقفية المجمعية بشاره الراعي وبولس مطر وجمهرة من الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين. وأقنع البطريرك نصرالله بطرس صفير بأهمية هذا العمل المجمعي في رسم خطة مستقبلية للكنيسة المارونية وللبنان على أبواب الألفية الثانية على أن نأخذ الوقت اللازم لوضع الدراسات وكتابة مشاريع النصوص ومناقشتها تاركين الروح القدس يعمل في الكنيسة وفي كل واحد منا ريثما يحين الوقت لعقد المجمع. وواجه بحكمة وصبر ورجاء الأحداث الداخلية (1989-1990)، حيث فتح لنا ابواب مطرانيته في انطلياس ونقلنا مكاتبنا وأوراقنا وانتقلتُ أنا لأسكن في المطرانية وأبقى إلى جانبه للقيام بمهمّة أمانة السرّ. واقتنع بوقف الأعمال المجمعية بعد دعوة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سينودس الأساقفة الخاص بلبنان (1991-1997) لتصبّ كل الجهود في إنجاح السينودس. ثم عاد يقود الأعمال المجمعية حتى انعقاد المجمع البطريركي الماروني (2003-2006) الذي كان فيه الأمين العام والموجّه. ومن كرسيه في قرنة شهوان، قاد حركة وطنية مع اكليريكيين وعلمانيين من كل الاختصاصات والاتجاهات والانتماءات، كان قد عمل معهم سابقًا أو من أنضموا إليه لاحقًا. فكان لقاء قرنة شهوان بمباركة البطريرك نصرالله صفير، وكان بيان أيلول 2000 والبيانات اللاحقة والمواقف الجريئة المطالِبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان وباستعادة الحرية، القيمة الأغلى عند الموارنة واللبنانيين، والاستقلال الناجز والسيادة المطلقة وبقيام دولة الحق وحكم القانون.

 

وبعد ست وعشرين سنة، في 2 تموز 2012، سلّم رعاية أبرشية انطلياس إلى من اختاره شريكًا له في إدارة الأبرشية المطران كميل زيدان، الذي سبقه إلى بيت الآب، وبقي ساهرًا على الكنيسة وعلى المجمع البطريركي الماروني في مسيرة تطبيق توصياته.

 

وترك لي وصية كتابة تاريخ هذا المجمع الذي ذكره في كتابه الأخير « مراحل ومحطات» 2016 (ص 221). ,انا في صدد تنفيذ هذه الوصية.

 

يغيب المطران يوسف بشاره وتفتقده الكنيسة كاهنًا، مطرانًا، راعيًا، غيورًا، إداريًا حازمًا، وقائدًا للمسيرة المجمعية؛

 

ويفتقده لبنان لبنانيًا أصيلاً ومدافعًا بقوّة عن الحق والحرية والكرامة؛

 

وأفتقده أنا رفيقًا ومعلِّمًا مثالاً في عيش ما يطلب تطبيقه من الآخرين.

 

نطلب من الله أن يقبله في ملكوته السماوي صحبة الأبرار والصديقين والأحبار وجميع الذين رافقوه في مسيرته النضالية وقد سبقوه إلى الحياة الأبدية.