عظة المطران منير خيرالله
في قداس الأربعين للخوري بولس الرقيبي (المتوفي في 7/8/2020)
السبت 19/9/2020، في كنيسة سيدة النجاة- دوما
« هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي أنا أشربها ؟» (مرقس 10/35-45)
أبونا يعقوب (حنا) خادم هذه الرعية،
الأرشمندريت أنطونيوس (سعد) خادم رعية دوما (الأرثوذكسية)
أبونا جورج (خوري) خادم رعية دوما (الكاثوليكية)
أحبائي جميعًا أبناء دوما وترتج
عائلة الخوري بولس الرقيبي.
قداسنا معكم الليلة هو قداس شكر وعرفان جميل للخوري بولس الرقيبي الذي خدم رعية سيدة المعونات في دوما لمدة ست وأربعين سنة.
نسمع في إنجيل الأحد يسوع يدعو تلاميذه، ولكن بطريقة مميزة. توجّه أولاً إلى يعقوب ويوحنا قائلاً: تطلبان لكما مراكز عن يميني وعن شمالي. لكن « هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي أنا أشربها وأن تتعمدا بالمعمودية اتي أتعمّد بها أنا ؟ ». قالا: نعم نستطيع، دون أن يعرفا إلى أين يدعوهما يسوع.
ماذا يقصد يسوع ؟
الكأس هو كأس الآلام والصلب، والمعمودية هي معمودية الموت من أجل القيامة والحياة الأبدية.
ثم قال للرسل الآخرين الذين اغتاظوا من يعقوب ويوحنا: لا تغاروا ولا تستسلموا للحسد ولا تكونوا على مثال « الذين يُعدّون رؤساء الأمم فيسودونها، وعظماءها فيتسلطون عليها. فليس الأمر فيكم كذلك. بل من أراد أن يكون كبيرًا فيكم فليكن لكم عبدًا، لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدم». لا تفتشوا عن المراكز الأولى، بل الكبير فيكم فليكن لكم خادمًا.
يسوع يقلب مقاييس البشر، ويقلب الطاولة على لاعبيها، ويتكلم بمنطق المحبة التي تشرب كأس الآلام والصلب وتقبل معمودية الموت للولادة الجديدة إلى الحياة الأبدية.
والمحبة هي خدمة، على مثال ابن الانسان الذي جاء ليَخدم.
الكهنوت خدمة. لا هو سلطة ولا حكم ولا تشاوف.
في كهنوتنا يدعونا يسوع إلى الخدمة، إلى منطق جديد هو منطق المحبة التي تبذل ذاتها في سبيل من تحبّ.
الخوري بولس، ابن ترتج، لبّى دعوة المسيح إلى الخدمة في الكهنوت والمحبة والتضحية. فدخل شابًا بعمر العشرين سنة إلى اكليريكية كرمسده ليتلقّى التنشئة اللازمة. وفي سنته الأخيرة تزوج من جانيت انطون ابنة ترتج.
واقتبل سرّ الكهنوت سنة 1965. وراح يخدم مساعدًا في رعيته ترتج، ثم كاهنًا لرعية السيدة في دوما التي خدم فيها ستًّا وأربعين سنة (1971-2017) كان في خلالها، على مثال المسيح، الخادم الأمين والمضحّي والمحبّ في التعليم والتقديس والرعاية. وكان قريبًا من كل واحد منكم ومن كل عائلة من عائلاتكم والراعي الساهر عليكم. ورافقكم في كل مناسباتكم: المعموديات، والقربانات، والزواجات، والوفيات. كان يحمل عصا الرعاية ويدور على بيوت الرعية معلِّمًا ومنبِّهًا ومشجعًا ومقدِّسًا بتوزيع الأسرار.
دعاه يسوع إلى شرب كأسٍ مُرّة إذ امتحنه بمرض زوجته الخوريّه. فخدمها مع أربعة أطفال وسهر عليهم. ثم توفيت الخورية بعد عشر سنوات وبقي هو يخدم الأولاد كالأب والأم. ولم يقصّر في خدمة رعيتيه في دوما وترتج.
شرب كأس المرض مع زوجته وقَبِلَ معمودية الموت ليولد من جديد في كهنوته. ولم يبخل بأي جهد ليضحي ويخدم ويسهر على عائلته الصغيرة وعائلته الكبيرة في الخدمة المزدوجة في سرّ الزواج مع العائلة وفي سرّ الكهنوت مع الرعية.
هذا هو الخوري بولس الذي عرفته أنا ككاهن وكمطران. وتبقى في قلبي ذكرى الخوري بولس المضحي الكبير. وأذكر أنه، في آخر سنة من خدمته، نزل ذات نهار أحدٍ من ترتج إلى دوما سيرًا على الأقدام تحت الثلج المتساقط. وسقط على رأسه وأصيب بجلطة دماغية دون أن يشعر بادئ الأمر. وتابع طريقه واحتفل بالقداس في دوما. كل ذلك لكي لا يحرم أبناء الرعية من القداس. وما لبث أن نقله أولاده إلى المستشفى في جبيل حيث بقي لمدة في الغيبوبة. لكنه بقوّة الله استعاد صحته وعاد إلى خدمته.
هذه الصورة للخوري بولس تبقى في قلبي وفي قلوبكم لكي تذكروه دومًا في صلواتكم وتشكروا الرب عنه وعن خدمته وعن حضوره الساهر والمحبّ لدوما التي رافق أيضًا كهنتها وأبناءها على اختلاف انتماءاتهم المسيحية.
عرف الخوري بولس أن دوما هي أيقونةٌ لكنيسة لبنان التي تجمع تعددية الانتمائات الكنسية في وحدة الإيمان والمحبة والرجاء والاحترام المتبادل.
في قداسنا الأربعيني على وفاة الخوري بولس، الذي نحتفل به في دوما وفي أبرشية البترون، كما احتفلت له الأحد الماضي رعية ترتج وأبرشية جبيل، نطلب من الله أن يقبله في ملكوته صحبة الأبرار والصديقين والكهنة القديسين، وأن يعطينا أمثاله كهنةً لخدمة كنيستنا اليوم، لأننا في أمسّ الحاجة إلى كهنة وأساقفة يكونون خدامًا لشعب الله وشهودًا للحق ويقبلون شرب كأس الآلام والصلب ومعمودية الموت مع المسيح فداءً عن شعبهم ليستحقوا أن يكونوا في السماء قدوةً لنا، بشفاعة العذراء مريم وجميع قديسينا. آمين.